«في المطارات نولد وإلى المطارات نعود». هكذا استّهلت الكاتبة العراقية عالية ممدوح روايتها «المحبوبات». نالت الرواية «جائزة نجيب محفوظ للآداب» عام 2004، وجائزتها الأثمن محبوباتُها. «نحن النسوة، إننا نستطيع البكاء والتحدث ونحن مُجتمِعات تقودنا تلك الأحداث إلى التذكر، لا أحد يلاطفنا كما يجب، الملاطفة نوع من العلاج. لا، لم نبالغ، لكننا نتحدث كثيراً بما حصل لنا ولهم، وربما سيحصل. فحين تكون إحدانا بعيدة عن الباقيات نعتقد أن لا أمل لنا، لكن ما إن نجتمع معاً، حتى لو كان الحديث عن غيرنا بدافع النميمة، وإطلاق الشائعات، حتى نكتشف أن بعضنا، لا، كلنا، في حاجة إلى مساعدة». والسيرة الروائية لعالية ممدوح، التي صدرت أخيراً بعنوان «الأجنبية»، تذكر المحبوبات بالأسماء، ومعظمهن أديبات، وكاتبات معروفات مغتربات، مثل نهلة الشهال، وإنعام كجه جي، وإقبال القزويني، ومي غصوب، وحنان الشيخ، وفادية فقير، وحميدة نعنع، وليانة بدر، وسلوى بكر، وهدى بركات، ونادرة الديب.. قبيلة نساء العرب «المابعد الكولونيالية، المابعد الحياة والموت، المابعد العراق وليبيا، تونس وسوريا، المابعد مصر واليمن، المابعد الخرائط والحدود والدول، المابعد العمر الذي اكتوى وخسر جميع ما مرّ من الحقب الدموية». «بيت الطاعة» أول فصل في «الأجنبية» وفيه نعرف أن زوجها أقام عليها دعوى قضائية واعتُبرت «ناشزاً» لأنها ترفض العودة إلى «بيت الطاعة» في بغداد. وعندما تكون «الناشز» مثقفة عراقية مستقلة الرأي فهي مهددة، ليس فقط بفقدان حقوقها الزوجية، وجواز السفر، وإقامتها في باريس، بل أيضاً فقدان الحماية الأيديولوجية. والفاقد للحماية الأىديولوجية تعاديه غريزياً الأيديولوجيات، السياسية، والحزبية، والمذهبية، وهذه جائزتها العراقية. «تحولتُ أنا بشخصي الفيزيائي إلى نصّي المعزول الممنوع. أنا المخطوطة التي اندحرت وقامت فحضرت من تلك المدينة المجنونة بغداد، ومن الأعظمية وأنا أدور في الطرقات باحثةً عن آنساتها الجميلات المقتولات كما في رواية الغلامة». و«الغلامة» التي صدرت عام 2000 خريطة طريق نساء العرب «الأجنبيات» في الربيع العربي. هذه الخلطة النسائية العراقية الفتانة والفتاكة مطبوخة على حرائق ثورات، وانقلابات، واعتقالات، وتعذيب، واغتصاب، وقتل، وتشريد. لقد أعدّت الروائية العراقية «خبيصة» اللغة والأسلوب، وطبخت بها الرواية، ولعله العكس، عثرت الطبخة على الروائية العراقية «الخبيصة»، وطبختها. «تُخْرُطْ على كيفها»، حسب التعبير البغدادي، أي تتدفق حرة دون قواعد وأسلوب الكلام، فلا تعرف ما إذا كانت تتحدث بالفصحى أم العامية، عندما تكتب: «كنتُ أَبريْ الكلمات كما هي رؤوس الأقلام وأبدأ بالتدوين». وبالخبيصة تدوّن أحداثاً تاريخية كصبيحة ثورة 14 تموز 1958. «بدأتُ بِقَطع اللحم بسكيني التي أعلقها مع المفاتيح. أخذتُ مع الذراع قطعة لحم صغيرة. وكان الناس يقطعون مثلي، والوصي يتدلى أمامنا وينتقل من هذه اليد إلى ذلك الكف»، الحديث يدور حول سلخ الجماهير الهائجة جثة عبد الإله، الوصي على عرش العراق. والمتحدث معاون الشرطة جميل يستعيد بعد سنوات ما فعله. «أخرجتُ منديلي الأبيض ووضعتُ اللحمة البائتة داخله، لفلفتها بصورة مستعجلة واحترتُ أين أضعها». وعندما وصل منزله أراد مسح العرق وأفرد المنديل سقطت تلك القطعة على الكاشي. «كانت تشبه الدودة». أخته فريدة «التفتت بغتة كمن يريد الاستفراغ». وأطلقت صوتها الداوي في طريقها إلى الكنيف: «روح اغتسل وصلّي واقرأ القرآن عسى الله يغفر لك. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». وعالية لا تسرد الرواية، بل تخاطب بها العالم، كالعراقيات، غاضبة، أو مزدرية، وقلّما تحاور. وكيف تسرد أو تحاور مِن على «تخت» التعذيب، والاغتصاب. رواية «الغلامة» تبدأ داخل «النادي الأولمبي» ببغداد الذي تحول عقب انقلاب 8 شباط عام 1963 إلى مقر اعتقال المثقفين اليساريين العراقيين والتحقيق معهم. مشاهد ليست شنيعة فقط، بل مقذعة وهزلية، ودموية، كلوحات «الجحيم» للفنان الهولندي بروغيل في القرن السابع عشر. عالية ممدوح صوّرت بالكلمات «الجحيم» الذي لم تُقاربه أعمال الفن العراقي، ولا اقتربت منه أدبيات الأحزاب السياسية المشوشة الذاكرة. «الدكتورة أنيسة تكوَّم حولها وفوقها ثلاثة على ما أتذكر، وهي تُرفس وتلبط بين أيديهم. أغمي عليها وبدأت بالتلاشي ثم خرّت بلا حراك على الأرض». و«الشاعرة عفراء تنطلق بقراءة أبيات من الشعر العمودي في حماس: فأنتم عضاريط الخميس إذا غزوا، غناؤكم تلك الأخاطيط في الترب». بطلة الرواية «صبيحة»، معصوبة العينين يُلهيها انقضاض طائرات الانقلاب عن الانتباه إلى أنها تُغتصب. «الطائرات عادت للانقضاض ثانية ويد أحدهم على خدي. يد حيوان ترتعش وتهتز فخدعتني، ولأول مرة يبدأ صراخي المدوي، لكنه هو أيضاً بدأ صراخاً كالزئير. وفي ثوان.. بدأت أضحك وأعول وأصرخ وهو يحاول فك أسر يدي. أتحشرج وأغص بصوتي، ووقعُ أقدام. قامات تتكوَّم حولنا وفوقنا، وهم يوسعونه ركلا وسباباً فاحشاً. كان على وشك أن يقول شيئاً وهو يُجرُّ ويسحب من أمامي». السبت المقبل يوم المرأة العالمي، وكلها أيام نساء العرب «الأجنبيات». «كل ما حولك نسوان. نسوان مدونات في خرائط المدن، مطلوبات حتى يوم الدينونة. يطرن، يتمهلن، يزحفن، يسمعن الشائعات ويخفن من الطواف في المناطق الحرام: الرجل». هكذا نساء عالية ممدوح، منذ روايتها الأولى «حبات النفتالين» التي صدرت عام 1986 وتُرجمت إلى عدة لغات عالمية. تضمنت الرواية فصلاً عن حمّام النسوان يضاهي بسحره لوحة الفنان الفرنسي «انغرز» المشهورة «الحمّام التركي». لوحة الحمّام العراقي رسمتها بالكلمات طفلة عراقية استيقظت مبكراً أنوثتها وموهبتها، حيث «لا متاريس في الحمّامات العراقية، الحدود مفتوحة واللغة الوحيدة التي يتخاطب بها الجميع: اللمس. كأنّ جميعهن محتجزات وراء السماء واليوم نزلن إلى أرض الحمّام». و«التَشَّهي» (2007) رواية عالية ممدوح الوحيدة التي يحتل فيها الرجل الدور المركزي. «سرمد» مثقف عراقي يساري مقيم في لندن مصاب بضمور الذكورة. «البيضاوية» صديقته المغربية تأسى لحاله. «اسمع يا سي سرمد، التَشهي في هذه المرحلة يحتاج إلى شيء لا أعرف تسميته. سرمد، مدينتك تدك دكّاً وأنت غير قادر على.. غير كنقول الله غالب يا حبيبي». «ضمور الذكورة» رمز الأزمة السياسية والأخلاقية لليسار العراقي الذي تعاون مع الاحتلال الأميركي. وكان ينبغي أن نتوقع انتقام الروائية العراقية عندما قرأنا دعاءها في فاتحة رواية «الغلامة»: «اللهم دعني في حيّز اليأس كي لا يتم إنقاذي. اللهم لا تدعني أتساوى لا مع الغالب بمثقال ذرة، ولا مع المغلوب بدرهم رغوة. اللهم دعني أتعلم الحراسة على الشقاء كي أسدد بها إيجار روحي.. اللهم آمين». *مستشار في العلوم والتكنولوجيا