بينما تحل الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى التي كلفت البشرية 8,5 مليون قتيل وما يربو على 21 مليون مصاب، تلوح في الأفق هذه الأيام من أرض أوكرانيا نذر حرب محتملة يخشى البعض من أن تتطور إلى حرب عالمية ستكون هي الثالثة إذا ما سيطرت لغة القوة والتهديد بين أطراف الأزمة وأصروا على إشعال النيران بدلاً من إطفاء شراراتها. بداية الحرب العالمية الأولى كانت من حادثة وقعت في 28 يونيو 1914 عندما اغتيل وريث العرش النمساوي وزوجته أثناء زيارتهما لسراييفو على يد مواطن صربي، مما أجّج نقمة النمسا على الصرب فأعلنت الحرب عليها، فبادرت روسيا بإعلان التعبئة العسكرية ضد النمسا، فتدخلت ألمانيا بإعلان الحرب على روسيا، ولم يستمر الأمر أشهراً إلا وقد اتسعت رقعة الحرب لتشمل كل أوروبا ومناطق أخرى في العالم. التصعيد الروسي الأخير بإرسال قوات عسكرية لشبه جزيرة القرم التي تقع في جنوب أوكرانيا بزعم حماية المصالح الروسية عقاباً للأوكرانيين بعد عزل الرئيس الموالي لموسكو، أبرزت من جديد الأهمية الاستراتيجية لشبه الجزيرة التي كانت موقع حروب وصراعات خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. كما شهدت الجزيرة حرباً طاحنة في منتصف القرن التاسع عشر عندما كانت ذات أغلبية مسلمة وجزءاً من الخلافة العثمانية لقرون عدة. فقامت روسيا القيصرية بعد انتزاعها من العثمانيين بتهجير وقتل المسلمين من أصول تترية حتى أصبحوا أقلية في تلك البلاد. ويبدو أن أوكرانيا التي استدعت جنود الاحتياط وطلبت من حلف «الناتو» حمايتها من الغزو الروسي لأراضيها، قد وجدت نفسها في خضم أزمة تكلفها الكثير بسبب تحديها لجارتها الكبرى، خاصة إذا لم يبادر حلفاؤها الغربيون بإنقاذها من روسيا التي ضيقت الخناق الاقتصادي والسياسي على كييف. كما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجد الفرصة سانحة لفرض الوجود العسكري الروسي القوي في منطقة البحر الأسود وتحدي الناتو والغرب عموماً وإظهارهم في موقف ضعف وتقويض مصداقية حلف شمال الأطلسي. وحتى الآن، فإن رد فعل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على التدخل الروسي في أوكرانيا لم يتجاوز الإعراب عن مشاعر الغضب والقلق، وتحذير روسيا من تداعيات خطيرة على العلاقات الثنائية بسبب أزمة أوكرانيا، والتهديد باتخاذ إجراءات عقابية سياسية واقتصادية ضد روسيا إذا لم تسحب قواتها من الأراضي الأوكرانية. فأوروبا لا ترغب في تكرار عنترياتها السابقة بإعلان الحرب كما حدث في حروب القرن الماضي. كما أن الولايات المتحدة غير مستعدة لتحمل تكاليف حرب جديدة وهي التي أرهقتها واستنزفتها حربا أفغانستان والعراق. إن الرئيس بوتين موقنٌ اليوم بضعف رد الفعل الأميركي والغربي عموماً على تحركه العسكري بعد التعاطي الهزيل للولايات المتحدة والغرب مع الأزمة في سوريا، ونجاح موسكو في فرض أجندتها الموالية للنظام الحاكم في دمشق طوال السنوات الثلاث من عمر الثورة الشعبية السورية. ويخشى البعض من أن تتطور الإجراءات التصعيدية بين الروس والحكومة الجديدة في كييف إلى مواجهات عسكرية فعلية، ما قد يتسبب في تفجر حرب عالمية إذا ما قررت الأطراف الدولية إذكاء نار الحرب بالتدخل المباشر كما حدث في الحروب العالمية السابقة. إلا أن الدول الكبرى وفي ظل النظام الدولي القائم، تدرك جيداً أن أي حرب عالمية كبرى لن يخرج منها أحد منتصراً أو سالماً، خاصة أنها تمتلك ترسانات من الأسلحة غير التقليدية الكفيلة بمسح مدن بأكملها من الوجود وتهدد نتائجها الكارثية الجنس البشري برمته. ولذا، فإن الأزمة الحالية وإن تطورت فإنها سرعان ما تهدأ بعد تفاهمات وتسويات بين القوى الدولية المتنافسة على فرض الهيمنة والنفوذ في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية في العالم.