في ربيع 1990 زار بريدة وسط السعودية الأردني عصام البرقاوي المعروف بـ«أبو محمد المقدسي»، الذي يوصف بأنه المنظر الأول للجهادية السلفية التكفيرية في العالم. عاش عصام طوال سنوات مراهقته وشبابه في الكويت ودرس في العراق المرحلة الجامعية حتى جاء الاحتلال، وبعدها أبعد عن الكويت ولم يعد إليها، وكان قد قام بطباعة كتابه «الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية» في العام نفسه في باكستان. وفي زيارته تلك التقى عصام بمجموعة من السلفيين العلميين الذين كانت لا تزال تربطهم علاقة وثيقة ببقايا الجماعة السلفية (المحتسبة) الذين احتلوا المسجد الحرام في 1979، ولكنه اختار أيضاً أن يقضي ساعات مع مجموعة من الزهاد غرب بريدة، الذين كانوا بعيدين عن لوثة التكفير، ولكنهم كانوا وهابيين أصلاء. لقد عرف كيف يغزو قلوبهم ويكسب ثقتهم، فيومها اختار أن يقرأ في تلك الزيارة معظم أجزاء كتابيه الاثنين «الكواشف الجلية»، و«إعداد القادة الفوارس بهجر فساد المدارس» حيث كانت غالبيتهم ممن اعتزلوا بأبنائهم التعليم الحكومي، واختاروا تعليمهم الديني الخاص. ويبدو أن تلك الزيارة الأخيرة للمقدسي مع عوامل أخرى مساعدة، قد أبقت أثرها المدمر في جماعة صغيرة من الوهابيين الذين أثبتت أحداث العنف في 2003 في السعودية أن غالبيتهم أصبحوا يحملون الفكر التكفيري. للعلم فإن «الكواشف الجلية» قد اعتمَد في الغالبية الساحقة من أدلته وحججه على فتاوى علماء نجد، وهنا يكمن سحر المقدسي! هل يمكننا التساؤل: هل تحتاج هذه الجماعات المسلحة إلى حاضنة اجتماعية وعمق ديموغرافي تتحرك من خلاله وتنمو في مناخه؟ لا يمكن إهمال ما جرى في القرن التاسع عشر وفي بدايات القرن العشرين، حيث شهدت هذه الفترة ضخاً لحشود من الأدلة والدلائل والذرائع الدينية التي تقول بكفر الآخر المخالف، استثمرتها بريطانيا ضد خصومها وخصوصاً الأتراك العثمانيين الذين تم التأكيد على وثنيتهم وتلطخهم بالشركيات، وكذلك أيضاً الاستراتيجية التي اعتمدتها كل من ألمانيا وتركيا في رفع راية الجهاد ضد البريطانيين والفرنسيين وكل من من كان في صفهما. أي أن التكفير والجهاد تم استغلاله واستثماره لصالح القوى العظمى وقتها، وجاءت الوهابية متقاطعة أحياناً مع هذا السياق، وخصوصاً في فترة الحرب العالمية الأولى 1914-1918. العنف ضد الآخر كان له ارتباط بالخلافات الكلامية المبكرة، وقبل فتنة خلق القرآن في عصر المأمون العباسي، بسنوات بدأت حركة محمومة لإعادة تفسير معنى المسلم المؤمن المعصوم الدم والمال. ومن غبار هذا الجدال الفلسفي/ الكلامي ولدت إحدى أكبر الإشكاليات التي لا يزال المسلمون حتى اليوم يعانون منها وهي ما نسميه بالعقائد، وتولدت من هذه الصدامات الفكرية والمادية أحكام الردة، وقتل المخالف، لهذا حين أفتى ابن تيمية في القرن الثاني عشر فتواه الشهيرة في الفرق الباطنية الإسماعيلية، والنصيرية (العلويين) والدروز وغيرهم، كانت هذه الفتاوى هي المؤسسة الأكثر تأثيراً لفقه الجهاد المعاصر فقه الجماعات الإسلامية. عوداً إلى بدء. يميل اليوم بعض الخبراء والباحثين إلى أن زيارة المقدسي للسعودية في عام 1990 لم تكن عفوية، وأنه خطط لها وأعد لها من قبل جهات خارجية، وخصوصاً أنه كان تلميذاً وفياً لشيخه محمد سرور بن نايف زين العابدين الذي كان قد أبعد إلى الخارج قبل عشرين عاماً. ما هو مثير للدهشة أن الجهاد والثورة الأفغانية ضد حكم البريطانيين عقب الحرب العالمية الأولى، كانت قد اعتمدت الحجج الدينية نفسها التي روجها عملاء وحلفاء ألمانيا في خطة التثوير ضد بريطانيا وفرنسا!