لعل القارئ يتساءل منذ الوهلة الأولى هل بالفعل يمكن أن تكون لدولة الإمارات بما تحويه من نظام سياسي أن تستقل بنظرية سياسية منفردة بذاتها؟ الحقيقة أنه تساؤل في محله، فالدارس للعلوم السياسية يدرك جيداً أن هناك نظريات سياسية تطورت وتباينت مع تقادم السنين واختلاف الشعوب. وتأتي التجربة الإماراتية وما تختزله من خصوصية، لتدفعنا إلى القول إن هذه التجربة مع التسليم بتشابهها مع تجارب أخرى في بعض الجوانب إلا أنها استطاعت أن ترسم لنفسها حالة من التفرد. ونسير هنا مع القارئ لمحاولة دراسة بعض ملامح هذه النظرية وخصوصياتها. بداية يأتي مفهوم النظرية السياسية بوصفه نتاجاً للفكر السياسي، وتحليلاً منطقياً ومنهجياً للعمليات التي يمر بها هذا الفكر. وفي تفسير آخر فإن النظرية السياسية هي التي تضع الحقيقة السياسية في إطار منتظم متماسك له معنى. لا يتوقف الأمر عند ذلك، فالعلاقة بين النظريات السياسية والواقع ليست من طرف واحد. فإذا كانت النظريات تنبثق من الواقع، فإنها تعود من جديد لتؤثر على هذا الواقع. ويأتي السؤال هنا كيف هو واقع التجربة السياسية الإماراتية، وكيف ظهرت ملامحها في النظرية السياسية وماذا أضافت لها هذه الأخيرة؟ للإجابة على هذا التساؤل نسير بدورنا لإسقاط مفاهيم مهمة على التجربة الإماراتية مثل العقد الاجتماعي وشرعية الحكم. لا يخفى على القارئ أن تاريخ مجتمع الإمارات يسير باتجاه المجتمع القبلي التي تجمعه العديد من القيم والعادات والتقاليد جعلت منه مجتمعاً مترابطاً ذا ملامح هُوية مشتركة. هذه القيم جاءت معها واحدة من أهم متطلبات المجتمعات والنظم السياسية والمتمثلة في «شرعية السلطة». حيث تتجلى هذه الشرعية من خلال تفويض أفراد القبيلة السلطة لشيخ القبيلة، يقوم هذا الأخير بدوره في صون وحفظ مصالح القبيلة في مقابل الولاء والطاعة. ويأتي وجهاء القبيلة وكبار السن بوصفهم هيئة استشارية لشيخ القبيلة. كما يحتكِم أفراد القبيلة لوجهائهم بوصفهم سلطة قضائية في تلك القبيلة. رياح التطورات بدأت تهب على منطقة الخليج العربي لترتسم معها ملامح الدولة الحديثة ومقوماتها، فصار المجتمع القبلي على أعتاب الانتقال لمرحلة جديدة من نظم الحكم. والحقيقة أنه لم تكن نظم الحكم الجديدة هي الشغل الشاغل للمجتمع القبلي في تلك الفترة، فمعالم النظم السياسية الجديدة ليست مختلفة عما هو في النظام السياسي القبلي. غير أن الانتقال من القبيلة للانصهار في نسيج مجتمعي تحتويه سلطة بعينها كان أمر ربما يتطلب إعادة صياغة شرعية السلطة ومن له الحق في منحها ومن له الحق في نيلها. الموروث الثقافي والتاريخي ومجموعة القيم والهُويات المشتركة بين أفراد المجتمع الإماراتي جعلت مسألة الانتقال من النظام القبلي إلى نظام الدولة الحديثة غاية في السلاسة. فأصبح العقد الاجتماعي لدولة الإمارات مبنياً على تسليم أفراد المجتمع الإماراتي وفقاً لموروثهم الثقافي ونظام الحكم الذي نشأوا فيه، السلطة لشيوخ الإمارات السبع الذين اختاروا بدورهم المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ليكون رئيساً لدولة الإمارات وفي مقابل ذلك تتعهد السلطة الحاكمة بالحفاظ على مصالح هذا المجتمع وتحقيق تطلعاته. وبذلك تصبح شرعية السلطة الحاكمة في دولة الإمارات نابعة من جذور تلك القيم والعادات والتقاليد المتوارثة. لم تكتفِ السلطة الحاكمة في دولة الإمارات بالتقيد بالنظم السياسية الحديثة بحيث تكون هناك سلطة تنفيذية وتشريعية وقضائية فحسب، بل أصبح لكل إمارة مجلس تنفيذي خاص بها وهيئات استشارية تساعد الحاكم على المهمة الرئيسية وهي التنمية. يعود الموروث ليلعب دوره من جديد ويعطي للنظرية السياسية الإماراتية بُعداً آخر في انفرادها. فعبق التاريخ والتواصل المباشر بين شيخ القبيلة وأفراد قبيلته، لم يكن ليندثر في ظل الحداثة، فأصبحت مجالس الشيوخ مفتوحة لأفراد المجتمع وظل التواصل المباشر قائماً بين الحاكم والمحكوم. إن الاستقرار هو الغاية الأسمى للنظام السياسي على أي مستوى، غير أن الاستقرار لا ينفي التغير الذي يؤخذ كمرادف للتكيف، بمعنى قدرة النظام على الاستجابة للتغيرات البيئية بإجراء تعديلات جزئية في البنية السياسية أو السلوك السياسي أو كليهما. فالتغير المقصود هنا هو تغير في إطار «الاستقرار». وما كان للسلطة الحاكمة في دولة الإمارات أن تغفل هذا الأمر الذي كان لابد وأن يأتي في إطار المحافظة على الغاية الأسمى وهي الاستقرار. فجاء صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات ليؤكد من خلال برنامج التمكين السياسي وتعزيز مشاركة المواطنين في العمل الوطني، على أن النظام السياسي في دولة الإمارات، يسير في ركب التغير الذي يحقق الاستقرار ولا يأتي مناكفاً للموروث والعادات والتقاليد. هبت رياح أخرى وهي رياح ما يعرف بـ«الربيع العربي» وبدأت المزايدات على مدى تأثير ذلك على دول الخليج العربي. جاءت هذه المزايدات وهي لا تعي أمراً مهماً للغاية ألا وهو ضرورة قراءة كل حالة على حدة. جاء من انسلخ من موروثه ليزايد على ولائه لوطنه بولاءات عابرة للحدود. جاء ولم يجد سوى صفوف مرصوصة من قبل المجتمع الإماراتي تسبق قيادته لمواجهة هذا الفكر المنسلخ عن مجتمعه. فذهب الفكر المعوج جفاءً، وأما ما ينفع المجتمع الإماراتي فبقي، ليبقى معه الفكر الأصيل القائم على مرتكزات العادات والتقاليد والقيم الموروثة. وبالعودة إلى العلاقة بين النظرية السياسية والحقيقة السياسية، فإننا نجد أن واقع الممارسة السياسية لمجتمع دولة الإمارات، بدءاً من المجتمع القبلي مروراً بتأسيس دولة الإمارات، وليس انتهاءً بمرحلة التمكين السياسي وفق الإطار العام للنظام السياسي لدولة الإمارات الساعي إلى الغاية الأسمى وهي الاستقرار والتنمية، قد أعطى لدولة الإمارات خصوصية تميزها عن غيرها. إنها «النظرية السياسية» التي تدعو إلى ما يمكن أن تتعلمه الحكومات من شركات الطيران. إنها «النظرية السياسية» التي تدعو إلى ما يمكن أن يقدمه القطاع الفندقي والقطاع المصرفي من دروس للحكومات. إنها «النظرية السياسية الإماراتية» التي سيسعى كاتب هذه السطور لتوثيق جذورها وتتبعها عبر مراحلها التاريخية منذ تأسيس الدولة وإلى يومنا عبر دراسة مطولة تكون مرجعاً لمن يريد أن يستقي من هذه التجربة الفريدة. وأسأل الله أن يعينني في ذلك.