قاتل الله التكنولوجيا. لم يعد للمرء شيء يدعى الخصوصية وليس بالإمكان الادعاء أننا قادرون على صناعة حصن حصين ضد الاختراق، فالجميع إلا من رحم الله من العجائز والأطفال لديهم حسابات تسير ضمن إطار تكنولوجي شديد الوطأة، خاصة بعد الصفقة التي كانت نتيجتها شراء «الواتس أب» الذي صار معقلاً تسكنه كل الأسماء التي تتضمنها قائمة اتصالاتك ومعارفك بمن فيهم الخادمة والسائق والحلاق وأشخاص لم تحسب يوماً أن لديهم أدنى معرفة بالتقنية الحديثة. والقلق هنا ليس رقم الهاتف المدون لدى شركة «واتس أب» التي بالإمكان أن تطلع عليها جهات رسمية أميركية، إنها في كم المعلومات المتداولة مع الأشخاص في أحاديثهم الخاصة وأعمالهم ومواعيدهم والكثير من الأخبار والأسرار. وبما أنه ليس هناك ما يستدعي كل هذا القلق، وخاصة أن العلاقات الإنسانية تحتمل كل شيء وأي شيء ولكن أياً كان فهناك حالة خاصة قد يحب الإنسان أن يسترها وتبقى في طي الكتمان عن البشر حتى ولو كانوا أهله. لكن هنا في هذا السياق يبدو الإنسان عارياً حتى من ورقة التوت، مشاعاً متاحاً للعالم أن يتفرج عليه ويتنصت على خواطره وكوابيسه وأفراحه، وكأن الكون لا يمكنه البتة حمايته من أن ينهش الزمن مأمنه ليكون عرضة للأقاويل والأرقام والتوجس من أشياء وهمية قد تعشش في صدر المراقب. وما أصعب الرقيب... المتطلع للقمة والضمة والمحاصر لجنات الحرية التي تحولت في عصر العولمة إلى حلم بعيد المنال، مهنة بغيضة عندما تكون وأنت مسترخ تراسل من تحب، وهناك من يتأبط سوءاً ضد راحتك ويعمل جاهداً على تجميع النقاط والفواصل لتحويلها إلى شك مريب فقير لاستدعاء الرقابة. لذلك هرع الكثيرون إلى بدائل تواصل لم تخترق بعد، وليست مشاعاً أو مجالاً للرقابة والتعدي على الخصوصية، وأزعم أنه بعد مدة سيجد الجميع نفسه مضطراً للبحث عن بديل أكثر أمناً، قادر على الحفاظ على خصوصية ولو بسيطة. وليت الأمر توقف على الرسائل المتبادلة من خلال «الواتس أب» أو غيره فقد جاء «الانستجرام» ليجعل الصورة وثيقة ضد صاحبها، لتكتشف كيف هي حياته وكيف يفكر بالحساب الشخصي انعكاس لاهتمامات صاحبه وهنا تكمن الأسئلة الخاصة التي تتحول إلى عامة مهما حاول الشخص غلق حسابه إلا على أشخاص يختارهم، فالاختراق قد يحدث والخصوصية تذوب بعد أيام إلى درجة أنك قد تسأل شخصاً رأيته مصادفة كيف كان المطعم الذي تناولت فيه إفطارك؟ تغيب عن كثيرين حقيقة هذا الاختراق، وهذا العربي الذي يكشف كل شيء ويعطي معلومة لا يسأل عنها الطرف الآخر بل تأتيه رغماً عنه وعن غيره. هل صار العالم قرية صغيرة، ربما لا، فعندما قالها «مكلوهان» كان يفكر في التلفاز والصحف الأدوات الكلاسيكية، ولكنه أعطى إشارة الشك في كون أخبار الجميع صارت طازجة وفي المتناول دون أدنى شك. مخيفة هذه التكنولوجيا، ومعقد وعقدت معها كل تفاصيلنا اليومية التي كانت بسيطة. سقى الله زمن الإذاعة التي كانت أهم مصدر إخباري يوم لا نعرف من المذيع إلا صوته... لا شيء غيره.