بعد عشرة أشهر على تكليف «تمام سلام» بتشكيل الحكومة اللبنانية، تمكّن الرئيسان سلام وسليمان من تشكيل حكومة «سياسية جامعة»، عاد من خلالها «تيار المستقبل» وقوى «14 آذار» (ما عدا «القوات اللبنانية» برئاسة جعجع) إلى المشاركة في وزارات مهمة. ولمن لا يعرف فإن «حزب الله» وحلفاءه قاموا في مطلع 2011 بانقلاب سياسي من الداخل على حكومة سعد الحريري (بمعونة جنبلاط وميقاتي) وشكّلوا حكومة بمفردهم تقريباً، وقد تجاوز عهدها السنوات الثلاث. وما يزال غير واضح لماذا استقال ميقاتي قبل عشرة أشهُر، إنما على أي حال؛ فالجميع تقريباً وافق على تكليف سلام، لكن «حزب الله» وحلفاءه رفضوا الموافقة على حكومة مُحايدة أو تكنوقراط، تهتم بإدارة الشأن العام، في الظرف الصعب الذي يمر به لبنان. وقالوا أخيراً إنهم يريدون حكومة سياسية جامعة، وهم مستعدون للتنازل في أمرين: الثلث المعطل الذي كانوا يصرون عليه منذ عام 2008، والمداورة في الوزارات أو الحقائب الوزارية. وهكذا تخلى الطرفان السياسيان الرئيسيان في لبنان كل عن موقفه المسبق: «تيار المستقبل» عن الحكومة الحيادية أو التي ليس فيها «حزب الله»، و«حزب الله» عن الثلث المعطل وعن الوزارات الدائمة. لماذا وافق «حزب الله» على هذه التنازلات؟ وإلى أين يصل بمقاربته هذه؟ هناك من قال إن هذا الأمر يدل على الضيق والاستنزاف الذي تعانيه إيران منذ قيام الثورات العربية في عام 2011. فهي تقاتل منذ ذلك الحين في كل مناطق النفوذ، أي في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وقبل أكثر من عام أرسل الإيرانيون «حزب الله» للقتال إلى جانب الرئيس السوري، وسقط لهم حتى الآن مئات القتلى، لكنهم استطاعوا منع سقوط الأسد. ومع مجيء روحاني للسلطة، وإنجازه الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة؛ فإن الغرب والعرب انتظروا مقاربة جديدة للسياسة الخارجية الإيرانية. وهكذا فربما أراد الإيرانيون بحكومة المشاركة هذه إعطاء رسالة أخرى غير رسالة المواجهة التي دأبوا عليها قبل القتال في سوريا وبعده. ومن ضمن الرسالة الأخرى (في لبنان بالتحديد) ربما كان المقصود مجاملة الأوروبيين المهتمين بلبنان وبالمسيحيين فيه. وبخاصة أن انتخابات رئاسة الجمهورية على الأبواب. ولا أحد يريد إعطاء الانطباع بإرادة إبقاء هذا المنصب المسيحي المهم فارغاً. فبحسب هذا الرأي؛ يحقق هذا «الانفراج» النسبي في لبنان لإيران حجة مفادها أنهم إيجابيون ومتعاونون وفي لبنان بالذات. بيد أن هناك من قال، إن الأمر يتصل أيضاً بالضيق الكبير الذي يعانيه الإيرانيون بسبب التدخل في الملف السوري والاعتراض العربي الكبير على ذلك، إذ ربما فكّروا بالتقارب مع العرب من هذه الجهة. أما «تيار المستقبل» فهو لا يرى أن الإيرانيين يريدون إعطاء إشارات تقارب في لبنان، أو في العلاقات مع العرب. وإنما وافق على مشاركة «حزب الله» في الحكومة لفتح نافذة في الجدار المسدود، وللتأثير أكثر من الداخل بعد أن بقي خارج السلطة لثلاث سنوات، وبخاصة أنّ الاغتيالات عادت في صفوفه، فضلا عن مخاطر انجرار لبنان إلى النزاع السوري بسبب تدخل الحزب هناك، وتصاعد التوتر بين السنة والشيعة، وظهور انتحاريين سنة يغيرون على الحزب والمناطق الشيعية بالبلاد. ويستدل «تيار المستقبل» على أنّ انفتاح الحزب محدود، من موقفه من البيان الوزاري للحكومة الجديدة، الذي ما يزال الجدل دائراً حوله منذ أسبوعين، إذ يصر الحزب على ذكر «المقاومة» في البيان، كما يصر على عدم ذكر «إعلان بعبدا» الذي وافق عليه من قبل، والذي يدعو لتحييد لبنان، وعدم التدخل في الشأن السوري! ولو تأملنا سياسات الحزب في السنوات الأخيرة؛ فسنجد أنه ما تخلّى إلا عن «الثلث المعطِّل»، أما الأمور الأخرى، فإنه باقٍ فيها على الموقف نفسه ومن ضمنها: الإصرار على مقاتلة الشعب السوري، إنقاذاً للمحور الإيراني الذي انبنى وتطور خلال العقد الماضي، واتصلت حلقاته بعد غزو العراق عام 2003. وما تعكر صفوه إلا بقيام الثورة السورية على الأسد، فضلا عن عودة الثوران السني بالعراق، وظهور الانتحاريين بلبنان! ما هي إمكانيات تحسُّن الموقف أو حصول تطور إيجابي؟ كان تشكيل الحكومة بحدّ ذاته تطوراً إيجابياً بارزاً. إنما هناك تحدي البيان الوزاري، و«تيار المستقبل» ليس مستعداً للتنازل أكثر بشأنه، أي للقبول باستمرار الحزب على قتاله في سوريا مهما كلف الأمر، ولا بأن يبقى الحزب محتفظاً بسلاحه يستخدمه بالداخل اللبناني بذريعة المقاومة التي لا تقاوم إلا اللبنانيين والسوريين! ولذا فهناك احتمال، إذا استمر الخلاف، أن لا تصل الحكومة الجديدة إلى مجلس النواب من أجل نيل الثقة، وأن تتحول إلى حكومة تصريف أعمال. بيد أن ذلك إنْ حصل فهو يعني تعرقُلا في التوصل إلى توافق بشأن إجراء الانتخابات الرئاسية في مايو المقبل. وإذا حصل الفراغ في الرئاسة؛ فإن الحكومة الحاضرة تتولى صلاحيات الرئيس بانتظار حصول الانتخابات. وهناك اهتمام دولي وعربي كبير بحصول الانتخابات الرئاسية في موعدها. وربما كانت إيران مهتمة بسبب الموقع القوي للشيعة في النظام، وتـأثيرهم في سياسات المنطقة. لكن هذا الخلاف الشديد سواء حول الحكومة أو الرئاسة، قد يعني التوجه للتمديد للرئيس الحالي لفترة محدودة، كما قد يعني تأجيل الانتخابات النيابية في الخريف المقبل. أما المرشحون للرئاسة من المسيحيين الموارنة فبينهم قائد الجيش كالعادة، ومحافظ البنك المركزي، فضلا عن عدة نواب مسيحيين، وبعض الأثرياء المعروفين أوروبياً. أما الأطراف السياسية اللبنانية، وأهمها «حزب الله» و«تيار المستقبل»، فالمفروض أنها منتظمة في أحلاف لها مرشحوها الرسميون: فقوى «8 آذار» مرشحها الرسمي الجنرال ميشال عون، وقوى «14 آذار» لها عدة مرشحين ممكنين من بينهم سمير جعجع، وبطرس حرب، وروبير غانم. حالة لبنان بعد تشكيل الحكومة إذن ليست أفضل بكثير منها قبلها. وبخاصة أنّ «حزب الله» ما يزال يقاتل بسوريا، وأن الأمن ليس مستتباً في لبنان، بسبب التوتر الشيعي السني من جهة، وظهور الانتحاريين في المشهد من جهة ثانية. وقد ذكرت إسرائيل الجميع بنفسها بالغارتين اللتين شنتهما على الحزب قبل أيام في منطقة حدودية بشرق لبنان. وهناك تخمينات بأن الغارتين كانتا على قافلة صواريخ منقولة من سوريا، بينما يقول خبراء عسكريون إن الغارتين كانتا على مواقع للحزب مجهزة بصواريخ يمكن أن تهدد إسرائيل! ما بقي أحد إلا ودخل في النزاع السوري الذي يبدو أنه ليس فيه أو له حل قريب. ولبنان مُرهَق بسبب وجود مليون لاجئ سوري على أرضه وما تزال أعدادهم تتزايد. ومأزوم بسبب تدخل الحزب في سوريا. ومأزوم بسبب حضور إسرائيل في المشهد. ومأزوم بالانتحاريات والاغتيالات. وهذا فضلا عن الأزمة الاقتصادية الخانقة، واحتمالات فراغ سدة الرئاسة. ومع ذلك فإن المعلقين السياسيين مجمعون على أن الوضع بعد تشكيل الحكومة أفضل منه قبلها!