يكتسي كتاب العقيد الفرنسي ميشل غويا: «تحت النار: الموت كفرضية عمل» الصادر مؤخراً أهمية استثنائية لكون مؤلفه عسكرياً مهنياً في القوات البحرية ذا تجربة مديدة، حيث عرف الصراعات المسلحة والأعمال القتالية عن قرب في مناطق البلقان وأفريقيا وغيرها، هذا فضلاً عن كونه أيضاً دكتوراً وباحثاً متمرساً في التاريخ، ومدير مكتب «الدراسات» بأحد المراكز المهمة التابعة لقوات البر الفرنسية. وفي كتابه يغوص في تفاصيل ولحظات حياة الجنود، وهم يواجهون أصعب اللحظات في مواجهة العدو، مع كل ما يفرضه ذلك من ضغوط نفسية وجسدية، واحتمال التعرض للمخاطر بالنسبة لهم أو بالنسبة للطرف الآخر، وذلك من خلال جمع شهادات ومشاهدات بعض ذوي التجارب المريرة في الصراعات المعاصرة، وأيضاً بالاستناد إلى بعض الأدبيات التاريخية القديمة المتعلقة بفن الحرب، هذا طبعاً مع مزج ذلك كله ببعض التجارب التي تبرز معنى أن يكون الإنسان منخرطاً أصلاً في صراع من أجل البقاء، أو ساعياً لتحقيق أهداف قد يكلفه الوصول إليها إبداء أشد أنواع الشجاعة وبذل أقصى أشكال التضحية. وبين دفتي كتابه الواقع في 274 صفحة يعرض الكاتب حياة ويوميات الجنود وطرفاً من التحديات التي تعنيها طبيعة عملهم، وما يقتضيه من تصرفات عقلانية وترشيد للوسائل وسعيٍ لتحقيق الغايات بأقل الإمكانيات، ويثير هنا قضايا فنية مثل ضرورة الاستخدام الفعال والمعقلن للتموين والذخيرة، وحساب ردود الفعل بطريقة عقلانية. ويؤكد أن إحدى المهام الجوهرية للجيوش هي صناعة الرجال، وجعل أشخاص عاديين قادرين على فعل أشياء غير عادية، والتفوق في إنجاز العمل بالاعتماد على الممكن والمتاح. كما يظهر حالات تاريخية كثيرة لانتصارات مؤزرة حققتها جيوش على رغم قلة المحاربين العددية مقارنة بالخصم. ويقدم الكتاب أيضاً مقاربة أخرى عن التداعيات النفسية والمعنوية للحرب على الجنود، وما قد يسجل في بعض الأحيان من حالات صدمة وأعراض تالية لا تعدم الصراعات الكبيرة وقوعها لدى بعض الأفراد المنخرطين فيها. كما يبرز بشكل خاص معنى مهمة الجنود السامية في المجتمع وخاصة في هذا العصر الذي تسود فيه الفردانية في المجتمع الغربي حيث يسعى كل فرد لتحقيق مصلحته وثرائه الخاص على حساب الآخرين وأحياناً في تضارب حتى مع المصلحة العامة، حيث تمثل الجندية تذكيراً دائماً بأن هنالك أيضاً رجالاً مستعدين دائماً للتضحية بذواتهم وأرواحهم دفاعاً عن سعادة وحرية ومصلحة بقية المجتمع والوطن الذي ينتمون إليه. ووجود روح التضحية والتفاني في أداء المهمة هو ما يجعل منجز الجندي والجهد الذي يبذله يؤتي ثماره بنسبة مردود أعلى بكثير من أية مهنة أخرى، حيث يستطيع 20 في المئة من العدد المطلوب لإنجاز أية مهمة تحقيق 80 في المئة من أهدافها، بفعل فائض الجهد والتفاني والتضحية. بل إن الكاتب يتحدث هنا عما يسميه «اقتصاد الشجاعة» حيث يكون للإخلاص في العمل مردود هائل يشكل في حد ذاته فائض قيمة ويعبر عن نفسه من خلال تحقيق أصعب الأهداف بأقل الوسائل والتكاليف. ومع مرور الصفحات والفصول يستغرق المؤلف في عالم الجندية ويخلق نوعاً من الألفة بين القارئ العادي وهذا العالم الخاص، دون أن يمنعه ذلك من الخوض في أمور فنية وتخصصية وكذلك صك بعض المفاهيم الفنية أو التعبيرات الجديدة مثل «صخب ساحات القتال» و«اعتياد الخطر» و«كابوستان» و«الإخلاء لأسباب متعلقة بالضعف النفسي»... الخ. كما يتحدث الكاتب أيضاً عن أهمية تقسيم الأدوار والنظام والضبط والربط والتراتبية، ويشير إلى تغير مفاهيم القيادة، والأهمية الاستثنائية لترسيخ الثقة فيما بين رفاق السلاح، مع تذكير بالتعبير الرمزي الشائع القائل إن قوة الحزمة تكمن في تضامن وترابط جميع أفرادها معاً. هذا إضافة إلى قوة تأثير وتحفيز أحكام القيمة والقيم الأخلاقية في عالم الجندية حيث «على رغم الخوف الطبيعي، يفضل الرجال المعاناة، بدلاً من عار أن يوصفوا بالجبن». وفي ذات الوقت الذي تكتسي فيه الثقة أهمية استثنائية فيما بين رفاق السلاح تلعب الثقة أيضاً في القادة دوراً كبيراً في تحفيز وتشجيع المحاربين على أداء المهام الجسيمة. وهاتان الثقتان ضروريتان معاً لدفع الجنود لبذل أقصى جهد والإخلاص في عملهم أثناء لحظات التحدي الصعبة. ويكون إخلاصهم بطبيعة الحال أكبر كلما كانوا على يقين من أنهم يحابون من أجل مصلحة وطنهم، وتحقيق أهدافه، وأيضاً كلما كانت تلك الأهداف نفسها تبدو واضحة ومشروعة. حسن ولد المختار ------ الكتاب: تحت النار: الموت كفرضية عمل المؤلف: ميشل غويا الناشر: تالاندييه تاريخ النشر: 2014