حينما قامت ثورات «الربيع العربي» بداية بتونس الخضراء، التي لحقتها مصر بعدها بأسابيع قليلة، وسرعان ما لحقت ليبيا بالركب من خلال صراع دموي حاد لم تشهده كل من تونس ومصر، ظننا أن كل ثورة من هذه الثورات إنما هي ثورة سياسية في المقام الأول. ونعني بذلك أن الهدف الأساسي لهذه الثورات جميعاً هو الانقلاب الجماهيري ضد النظام الاستبدادي القديم، شمولياً كان أو سلطوياً، للقضاء على الاحتكار السياسي واستئصال شأفة الفساد الذي نخر في بنية المجتمع، وإنهاء عهد المظالم الاجتماعية التي عانت منها جماهير المواطنين في البلاد الثلاثة التي شهدت هذه الثورات. ولكن تبين أن الثورة السياسية التي تهدف إلى اقتلاع جذور النظام الاستبدادي القديم، لا بد لها أن تتقدم إلى الأمام وتحاول تأسيس نظام ديمقراطي يقوم على أساس التعددية، وينهض في ضوء مبادئ سيادة القانون من ناحية، واحترام المواطنة من ناحية أخرى. وعلى أرض الواقع، لاحظنا أن جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر - على عكس حزب «النهضة» - آثرت أن تسعى إلى الهيمنة الكاملة على مجمل الفضاء السياسي المصري، وهو ما أدى إلى تعثر شديد في التحول الديمقراطي وإنجاز أهداف الثورة، مما جعل المسار الديمقراطي غير محدد الملامح والاتجاهات. واستمر هذا الوضع عاماً كاملاً هو الذي استغرقه حكم جماعة «الإخوان المسلمين» إلى أن قام الشعب ضدها في 30 يونيو وأيدته القوات المسلحة. غير أننا لو تأملنا الموضوع ملياً لأدركنا أن التعريف التقليدي للثورة قاصر قصوراً شديداً؛ لأنه ركز فقط على البعد السياسي المتعلق بالقضاء على النظام القديم، ولم يتطرق إلى جوهر أي ثورة حقيقية، وهو أن تكون لها توجهات فكرية وثقافية جذرية تقطع قطعاً واضحاً مع الممارسات السابقة، وتشكل بداية جديدة للمجتمعات التي وقعت فيها هذه الانتفاضات الجماهيرية. وقد يكون مرجعنا في هذه التساؤلات المهمة الخبرة التاريخية للمجتمعات الديمقراطية الغربية، التي لم تنجح في أن تقطع مع المجتمع الإقطاعي إلا بعد أن أرست دعائم المجتمع الصناعي، في ظل مشروع حضاري متكامل هو الذي يشار إليه عادة باسم «الحداثة». والسؤال هنا: هل نجحت الانتفاضات الجماهيرية في كل من تونس ومصر وليبيا في الشروع في التأسيس لمجتمعات جديدة قادرة على أن تحقق أهداف الثورة أم أن هناك عقبات تقف عثرة في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي؟ ربما يكون أكبر أسباب هذا التعثر أن هذه «الثورات»، التي اندلعت في كل من تونس ومصر وليبيا كانت بغير قيادة، ولكن أخطر من ذلك أنها كانت بغير أيديولوجية، بمعنى نظرية متكاملة تحدد أهداف مجتمع ما بعد الثورة وطرق تحقيقها بوسائل محددة. غير أننا لو تجاوزنا مؤقتاً عن هذه العقبات، وهي أحد الأسباب الحقيقية للتعثر فإن أخطر منها جميعاً أن هذه المجتمعات تراكمت فيها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية منها بطريقة غير مسبوقة، وهذا التراكم يمكن أن يجعلها من مجتمعات «المخاطر». و«مجتمع المخاطر» مفهوم صكّه عالم الاجتماع الألماني «إيرليش بك» في كتابه «مجتمع الخطر» ويشير فيه إلى أن جماع المخاطر المتعددة الصناعية والبيئية والصحية تشكل ما يطلق عليه «مجتمع المخاطر العالمي». ويرد السبب في نشوء هذا المجتمع إلى تسارع التطورات التكنولوجية الذي يؤدي إلى ظهور أنواع جديدة من المخاطر على الإنسان أن يواجهها أو يتكيف معها. غير أن الجديد في هذا الموضوع هو عدم الاقتصار على المخاطر البيئية، بل تشتمل كذلك على سلسلة من المتغيرات المترابطة في حياتنا الاجتماعية والمعاصرة. ومن أمثلة هذه المتغيرات - التي لوحظ وجودها على المستوى العالمي - التقلب في أنماط العمالة والاستخدام وتزايد الإحساس بانعدام الأمن الوظيفي وانحسار أثر العادات والتقاليد على الهوية الشخصية وتآكل أنماط العائلة التقليدية. ويخلص بعض علماء الاجتماع إلى أن المخاطر تؤثر أيضاً في خيارات وقرارات أخرى، وخصوصاً العلاقة بين نظام التعليم واحتياجات السوق. بمعنى أن جيلاً كاملاً من المتعلمين تعليماً نظرياً قد لا يجدون لهم مكاناً في سوق العمل الذي قد يتطلب في مرحلة تاريخية ما مهندسين أو أخصائيين أو عمالاً مهرة. ومن هنا يصبح اختيار المسار التعليمي نفسه نوعاً من المخاطرة إن لم يضع المتعلم في اعتباره تحولات السوق واحتياجاتها إلى نمط تعليمي معين وخبرات عملية محددة. غير أن هذه المشكلات التي أشرنا إليها والموجودة فعلاً في المجتمعات المتقدمة تعد هينة جداً إذا ما قورنت بالمشكلات المتفاقمة في مجتمع المخاطر العربي إن صح التعبير. خذ مصر على سبيل المثال، وحاول أن تقرأ دلالة المؤشرات الكمية على الأوضاع السكانية والاقتصادية والتعليمية والإيكولوجية. وقد وصل عدد السكان مؤخراً إلى 95 مليون مواطن بما يعنيه ذلك من مسؤولية الدولة في تدبير الأماكن المناسبة للأطفال والشباب في المدارس والجامعات، بالإضافة إلى ضرورة تصميم برامج خاصة للرعاية الصحية، وسياسات فعالة للتشغيل لمواجهة موجات البطالة المرتفعة وخصوصاً بين الشباب. ولو نظرنا للمؤشرات الاقتصادية سنجد أن ما لا يقل عن 26 مليون مصري يقعون تحت خط الفقر، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات خطيرة. أما فيما يتعلق بالتعليم فلدينا معدل أمية يصل 40% من السكان وهذه لوحدها كارثة بكل المقاييس، ولها انعكاساتها السلبية الخطيرة على تدني الوعي الاجتماعي، مما سمح بغزو الأفكار الدينية المتطرفة لعقول هؤلاء، التي صاغت ما يمكن تسميته بـ«العقل التقليدي» الذي يسهل التأثير عليه ليصبح «عقلاً إرهابياً» لا يرى صاحبه غضاضة في القيام بالتفجيرات التي يقع العشرات ضحاياها، أو بالاغتيالات وكل صور الترويع الوحشية. وتبقى المخاطر الإيكولوجية التي تتمثل في انتشار العشوائيات، حيث يعيش عشرات الملايين من المواطنين المحرومين من أبسط الخدمات الإنسانية، في الوقت الذي يعيش فيه «شعب آخر» في المنتجعات الزاخرة بالفيلات والقصور التي يمارس سكانها حياة لا علاقة لها البتة بحياة عشرات الملايين من أفراد الطبقات الفقيرة والمتوسطة. وبعبارة موجزة فهناك في بنية المجتمعات العربية التي قامت فيها ثورات عوامل تؤدي بالضرورة إلى عدم الاستقرار السياسي نتيجة تصاعد المظاهرات المطلبية والاحتجاجات الجماهيرية، بالإضافة إلى التظاهرات السياسية الفوضوية التي تقوم بها جماعات شتى. وبعبارة موجزة فإن خريطة الطريق الديمقراطية سواء في تونس أو في مصر التي تتمثل أساساً في وضع دستور توافقي جديد وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية شفافة لن تحل مشكلة المشكلات المعوقة في بنية المجتمعات المعاصرة. ولا يكفى في ذلك في الواقع الشعار الذي رفعه خبير استراتيجي أميركي معروف موجهاً خطابه للحكام العرب «واجهوا أكثر مشكلات المواطنين حدة والتمسوا لها الحلول بكفاءة». لأن الشعار السائد الآن في عصر العولمة - للأسف الشديد - أن هناك «مشكلات لا حل لها» الذي حل محل الشعار الذي ساد طوال القرن العشرين وهو «لكل مشكلة حل»!