أثارت صفقة الشراء بقيمة 19 مليار دولار التي استحوذت بموجبها «فيسبوك» على «واتساب» -برنامج المراسلة الفورية الشهير- جدلاً عالمياً واسعاً ليس فقط لضخامة المبلغ، وإنما لمدلولاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية والمعلوماتية، ولكونها تشير إلى المدى الذي يمكن أن تتحكم فيه مثل هذه الوسائل في حياة مئات الملايين من المستخدمين. لقد تحولت شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة الفورية في الهواتف الذكية في غضون سنوات قليلة من برامج ابتكرها شباب هواة إلى استثمارات تبلغ قيمتها السوقية عشرات المليارات في أسواق المال، متجاوزة قيمة الاستثمارات التي تمتلكها العديد من الشركات الصناعية والتجارية والعقارية العالمية التي بنت أمجادها على مدى عقود طويلة من الجد والعمل. ويكمن سر صعود نجم هذه التقنيات الاتصالية الحديثة في انتشارها السريع والمذهل في أرجاء المعمورة. فـ «فيسبوك» الذي ظهر للوجود عام 2004 يصل عدد مستخدميه اليوم، وبعد عشر سنوات من إنشائه، إلى 1,24 مليار مستخدم، يشكلون ما لا يقل عن ثمن سكان الأرض. وإذا ما قارنا انتشار سرعة «فيسبوك» بالمخترعات القديمة مثل الهاتف الأرضي، فإن الأخير تطلب عقوداً طويلة حتى تسنى له الانتشار في العالم. وسر نجاح «فيسبوك» يكمن في جماهيريته التي استطاع من خلالها أن يصل إلى مئات الملايين من المستخدمين، وهم من يجذبون الإعلانات التي تدر على الشركة مبالغ كبيرة ورفعت قيمتها السوقية إلى المليارات من الدولارات. إن استحواذ «فيسبوك» على «واتساب» للتراسل الفوري الذي يبلغ مجموع مستخدميه 450 مليون شخص ليس لأهداف ربحية آنية، وإنما هناك أهداف أخرى ذات مدى بعيد تتعلق برغبة شركة كبرى مثل «فيسبوك» قطع الطريق أمام أي شركات صغيرة ناجحة أخرى قبل أن تكبر وتصبح منافساً قوياً يهددها يوماً ما، خاصة إذا ما كانت تمارس نشاطاً قريباً منها.. وهذا ما فعلته الشركة سابقاً مع برنامج «انستغرام» للصور عندما قامت بشرائه قبل عامين بمبلغ مليار دولار. وكذلك استملاك «مايكروسوفت» لشركة «سكايب» مقابل 8,5 مليار دولار، واستحواذ «غوغل» على شركة «دوبل كليك» للإعلان مقابل 3 مليارات دولار، واستملاكها أيضاً لـ«يوتيوب» في صفقة قيمتها 1,65 مليار دولار. إن ما يثير القلق في استحواذ «فيسبوك» على «واتساب» هي الأبعاد الأمنية المتعلقة بخصوصية الأفراد المستخدمين لهذه البرمجيات. وهناك انتقادات عديدة تثار على «فيسبوك» بانتهاك خصوصيات الأفراد واستغلالها لقواعد البيانات الكبيرة التي تمتلكها للمستخدمين لأغراض إعلانية أو استخباراتية بالتعاون مع الوكالات الأمنية في أميركا وأوروبا. وعلى الرغم من إعلان إدارة «فيسبوك» مراراً أن الشركة تراعي خصوصية مستخدميها، إلا أن الوثائق الاستخباراتية المسربة من قبل إدوارد سنودن، العميل الأميركي السابق في وكالة الأمن القومي، كشفت عن قيام الأميركيين والبريطانيين بالتجسس على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة «فيسبوك» و«تويتر». إن سطوة شركات البرمجيات وشبكات التواصل الاجتماعي وتأثيرها على حياة وسلوك الأفراد والمجتمعات وإدارتها للثورة الاتصالية والمعلوماتية، لا شك أنها تخدم البشرية من جانب تعزيز التواصل الإنساني وتوفير البديل الاتصالي الحر وغير التقليدي الذي يكسر هيمنة وتحكم وسائل الإعلام التقليدية ذات الأجندة المحددة. ومن جانب آخر، فإن هذه الوسائل التقنية والاتصالية الحديثة جعلت الناس أسرى لها، بحيث أصبحت الحياة اليومية مرهونة بمدى التفاعل مع هذه الابتكارات التي تحفظ تحركاتك وتسجل خطواتك وجميع نشاطاتك عندما تبحر في عالمها الإلكتروني.