كنت بجوار الكعبة الشريفة الأسبوع الماضي مع واحد من كبار رجالات الدولة المغاربة والعرب -السيد محمد القباج- الذين يعتز بهم في تجربتهم الكبيرة في ميادين التنمية والتغيير لعقود، وكنا في مكان رباني نعاين ونتدبر الآلاف، بل الملايين من المعتمرين الذين يحجون هذا المكان الآمن، والذين أتوا من كل حدب وصوب، والوقت كان مفتوحاً لتأشيرة العمرة في كل أنحاء العالم، فكانت مكة المكرمة تعج بالمعتمرين الذين أتوا من كل فج عميق، الصغير مع الكبير، وأتباع أي مذهب معين مع أصحاب المذاهب الأخرى، والمحزبون السياسيون مع غير المحزبين، الواحد يشهد للآخر بالإيمان فلا يبخس من قيمته مهما كان انتماؤه المذهبي أو السياسي أو العرقي ولا يدعي أنه هو صاحب الحق... كما اجتمع أصحاب البلدة مع جيرانهم من البلدان الأخرى في وحدة ربانية وتفاهم وتناغم وخشوع وخضوع لا يمكن أن يوصف... وهذه قوة خارقة اجتمعت في الملايين من المسلمين في مكان واحد، وبدأنا نتأمل الواقع المزري للأوطان العربية مع وجود هذه القوة الخارقة التي لا تستغل في بناء الأوطان سياسياً واقتصادياً، وأحسسنا بحسرة وألم عميقين ونحن نترك جانباً عوامل الوحدة والقوة لتفعيلها في عملية التطور والتغيير الحضاري، وندخل أنفسنا نحن المجتمعات العربية في غيابات الصراعات السياسية العميقة اللامتناهية والتخلف الحضاري. والصحيح أننا رأينا أوج جانب من الحضارة الإسلامية الفريدة من نوعها التي هي ثمرة الجهد البشري لعمارة الأرض وفق منهج الاستخلاف الرباني. وهذا المنهج يقوم على مرتكزين اثنين: - مرتكز عقيدة وقيم ومبادئ وأخلاقيات. - ومرتكز ماديات ومهارات ووسائل. والذي عايناه في هذا اللقاء الرباني هو تجسيد للمرتكز الأول والمتمثل في قوله تعالى: «فاعلم أنه لا إله إلا الله»، وما يندرج تحته من قيم ومبادئ ومعايير وضوابط وأخلاق، وقد جاء جميع الأنبياء ليتحدثوا عن هذا المرتكز الأساس في منهج الاستخلاف الرباني، منذ آدم عليه السلام إلى نوح، وإبراهيم، فموسى، فعيسى، إلى أن ختم الأمر برسولنا محمد عليه وعليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام. أما مرتكز الماديات والوسائل والمهارات، فيتمثل في قوله تعالى: «فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور»، وما يندرج تحت معنى المشي من ماديات ووسائل ومهارات، وهو الذي فشلنا نحن فيه. فمنهج الاستخلاف في الأرض قوامه «العلم والعمل»، فنحن بين «فاعلم» و«فامشوا»، فإذا قام التوازن الدقيق بين مبدأ «فاعلم» ومبدأ «فامشوا» قام المنهاج الصحيح لعمارة الأرض، وقامت الحضارة الصحيحة المتطورة. وإذا حصل خلل بين هذين المرتكزين، كان خلل في السير الحضاري، أي خلل في الأداء الإنتاجي، وخلل في الأداء التطبيقي أو الاستهلاكي للمنتج الحضاري كما كتب زميلنا الأستاذ حامد الرفاعي... ثم إن المشكلة الكبيرة في تجسيد «فاعلم» هي أن أصحاب العلم والحكمة من العرب والمسلمين موجودون، ولكن البيئة السياسية التي يمكن أن يجدّوا ويعملوا فيها غير متوافرة، كما أنهم لا يوضعون في المكان المناسب في مجتمعاتهم ولا تستغل طاقتهم في أداء السير الحضاري، وهنا المشكل. أما غياب البيئة السياسية وكما كتبنا مراراً مرده إلى بعض السلطويات العاتية التي كان شغلها الشاغل ولعقود هو القمع... ويمكن أن نرجع سنوات إلى الوراء لنفهم أصلاً لماذا قامت الاحتجاجات في تونس ومصر وليبيا وغيرها، فمعاناة الشعوب وانقيادها لشرعية صورية كاسرة لسوْرة الحكم وشدتها، وإن الشرعية هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة، ومهما توافر النظام السياسي على أجهزة القمع المادي وملكة القهر، فليست كافية لضمان استمرار الملك في القرن الحادي والعشرين وفي عالم «تويتر» و«فيسبوك»، ولكن لها مصيبة وهي أنها ترجع بالأوطان إلى عقود من التخلف الحضاري. فلعقود ظل أصحاب الحكمة الذين يملكون أدوات الاقتصاد والتنمية يعيشون في بيئة مريضة، تربتها مملوءة بالفيروسات والمبيدات مستعصية... بل إنهم في بعض الأحيان همشوا تهميشاً في إطار الأولويات التي كان يتبعها بناة دول ما بعد الاستعمار... ثم ظهرت مشكلة أخرى بعيدة عن مقومات السير الحضاري للأوطان، وهي الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين، وهذا خطر على الدين والدولة والمجتمع. والإسلام بخير والمسلمون بخير. فالذي ينقصنا كما نكتب دائماً هو خلق أدوات التسيير الصحيحة للإبداع والابتكار في مجال تسيير الشأن العام لتحقيق التنمية والوصول إلى مدارج الكمال حتى نحقق ثقافة النحل في الإنتاج الاقتصادي المثمر. هذا هو المطلوب. والأحزاب الإسلامية الآن في بعض الأوطان مقتنعة على وجه خطأ بأنها يجب أن تشتغل وتفرض هيمنتها بالاستثمار المنظم لمورد حيوي يتمثل في الدين، وفي مجتمعات كلها مسلمة، وهنا تكمن المشكلة لأن الصراع بين الأطياف المجتمعية السياسية سيغوص في متاهات وغيابات دينية خطيرة في مجال ليس بالديني، وإنما هو مجال سياسي تتصارع الأحزاب داخله انطلاقاً من برامج حزبية دنيوية تتعلق بالاقتصاد والمجتمع والمؤسسات وغيرها، وليس انطلاقاً من العوامل الدينية. والزج بالدين في المجال السياسي العام فاتح لأبواب جهنم، لأنه في بعض الأحيان يخرج ضعاف النفوس والعلم أناساً من الملة لأنهم ليسوا على طريقتهم كما يرونها هم، أو لأنهم لم يتبعوا منهاجهم في مسائل تافهة، ويبدأ الصراع في مسائل عقدية في مجتمعات مسلمة -داخل المجال السياسي- وهذه مصيبة آزفة ليس لها من دون الله كاشفة. والحل في مجتمعاتنا العربية والمسلمة في غاية السهولة، فالعبادة العقائدية والروحية موجودة كما أن مكونات العبادة العمرانية موجودة، ويكفي استثمارها بالطريقة الرياضية الصحيحة لتحقيق تنمية كل بلد على حدة، وتحقيق الوحدة العربية.