ليس أنفع للدول بعد استبانة طريق الاستقرار وبناء سبل التنمية وتوفير الرفاه والسعادة للشعوب من أن تعرف أعداءها جيداً، ليس الأعداء الخارجيين كدولٍ وتحالفات دولية أو إقليمية، بل والأعداء الداخليين كذلك، أولئك الذين ينخرون كالسوس عظام الوطن ويتفشون داخله كوباء. الأعداء الظاهرون الذين يعلنون عداوتهم يسهل على الدول التعامل معهم عبر طرق معروفة تديرها الدبلوماسية وتقرر نتائجها القوة بشتى أنواعها، ولكن الأعداء الداخليين بحاجة للتبصر وتدقيق النظر والفرز العادل، وليس أنفع في ذلك من سنّ القوانين والأنظمة الواضحة، التي تحدد الجريمة والعقاب، والتي تمكن من محاسبة كل مجرم أو متعد أو متماد، ويأتي في هذا السياق عددٌ من الإجراءات التي اتخذتها دول الخليج لحماية أمنها واستقرارها كدول ومثلها كتحالف إقليمي. من إجراءات مجلس التعاون الخليجي«الاتفاقية الأمنية الخليجية»، التي تعد بمزيد من التعاون يكفي هذه الدول شرور الأعداء الداخليين، ومن داخل الدول، فقد جاء الأمر الملكي للعاهل السعودي ليحلّ هذه المشكلة المزمنة في السعودية، وكذلك جرى في الإمارات من قبل برؤية ثاقبة ومتكاملة وتنفيذٍ صارم، والبحرين تتجه للتوجه نفسه، ولم تعلن عُمان موقفها النهائي بعد، وتبقى المشكلة في بلدين خليجيين، الأول واضحٌ في تحالفه مع حركات الإسلام السياسي وحركات العنف الديني وهي قطر، والثاني، في الكويت التي تبدو مترددةً تجاه الاتفاقية، ويدور فيها جدلٌ كبيرٌ حولها، تبعاً لطبيعة تركيبتها السياسية. قطر وسياساتها واضحة في اتجاهها المعادي لدول مجلس التعاون، وتردد الكويت مضر، وتصور عُمان أنها بمنأى عن مواجهة هذه المشكلة يجانبه الصواب وبخاصة وأنها قد واجهت بعض جماعات العنف الديني قبل سنوات. لقد اكتشفت دول الخليج وعلى رأسها الإمارات والسعودية الخطل الغربي الذي قادته الولايات المتحدة تجاه التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين والإسلام السياسي عامةً باعتباره سيكون المخرج لها من حركات العنف الديني كتنظيم القاعدة، وما حدث هو العكس تماماً حيث نشأت تلك الحركات والتنظيمات وتناسلت تحت حكم الحركات الأصولية، وما حدث في تونس وفي مصر وفي ليبيا أوضح مثال. «إخوان الخليج» أصبحوا في مأزق وبعد تنظيرات فقهية تكلفوا فيها وتعسفوا لتقديم مخارج دينية لخيارات «الإخوان المسلمين» في السلطة وبعدما سوّدوا آلاف الأوراق سقط حكم «الإخوان المسلمين» في مصر فأسقط في أيديهم. وفتشوا عن ملاذ فلم يجدوه سوى في قطر وتركيا، ومع أن أي مراقب يمكنه أن يعلم بسهولة أن حكم «الإخوان المسلمين» لن يعود لمصر، وأنهم لم يعد لهم وجود كبيرٌ إلا على شاشات قناة «الجزيرة»، التي تلتقطهم بالمجهر في الأزقة الصغيرة والمناطق النائية، وهي القناة التي اتخذها «إخوان الخليج» ملتجأً إلا أنهم تركوا التحليل السياسي والقراءة الواقعية إلى إطلاق الأيمان المغلظة بأن «الإخوان المسلمين» عائدون، يؤازرهم بعض الكُتاب الذين يرتبطون معهم بمصالح معينة أو أن غبش الرؤية وسيطرة الوهم يمنعانهم من المراجعة والتصحيح. شخصان يتخذهما «إخوان الخليج» كنموذجين رائدين، الأول يوسف القرضاوي والثاني العراقي عبدالمنعم العزّي المعروف حركياً باسم «محمد أحمد الراشد»، أما القرضاوي فهو لم يفتأ يهاجم دول الخليج وعلى رأسها السعودية والإمارات من منبر مسجده في الدوحة ووسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية هناك، وهو يكرر هذا الأمر بين فينة وأخرى ورعاته وحماته يحاولون في كل مرة تقديم الاعتذارات الباردة التي لم تعد تجد نفعاً ولا يصدقها حتى مطلقوها، وقد سبق الحديث عن القرضاوي مراراً وبقي الحديث عن الراشد. يكاد محمد أحمد الراشد أن يكون منظّر «إخوان الخليج» الأوحد، وهو كان كذلك من قبل ولكن تمت مزاحمته من قبل أسماء جديدة مؤخراً، وقد كانوا يوزعون كتبه على أوسع نطاق ويكدسونها في مكتبات المدارس، وبينما يمنحون بعضها لطلابهم فقد كانت القيادات تختص نفسها بالبعض الآخر. إنتاج الراشد متعدد وغزير مقارنةً بإخوان الخليج، فثمة إنتاجٌ وعظيٌ للصغار والعوام، وإنتاجٌ فقهيٌ جدليٌ للحركيين تجاه قضايا رئيسة كتشريع الخروج على الحاكم وهو يشمل إعادة إصدار بعض كتب التراث كمختصر «مدارج السالكين» و «الفقه اللاهب»، وإنتاجٌ تنظيميٌ عسكريٌ يشرح آليات التجنيد والتدريب والإعداد للمعركة مع الحكومات والشعوب، وإنتاجٌ خاصٌ بإخوان الخليج حيث التنظير القوي لكيفية التغلغل في مؤسسات الدولة في التعليم وفي العمل الخيري وفي غيرها. كان الراشد شديد الحرص على الانضباط الفكري وإظهار قدرته على بناء الاستراتيجيات والخطط والتنظير التربوي والثقافي سابقاً، وقد أخذ بعد ما كان يعرف بالربيع العربي يقع لشدة حماسته في التناقضات، بين فكره القديم من جهة وبين تعامله مع الواقع المعاصر من جهة أخرى، وسآخذ مفهوم البيعة والولاء للدولة كمثالٍ، ففي تنظيراته القديمة كان يشيد دائماً بما كان يسمّيه «مذهب السيف السلفي» أي الخروج على الحاكم السياسي بقوة السلاح، وله في هذا محاضرة مصورة في اليمن فضلاً عمّا كتبه في المسار، أما بعد 2011 ومع اعترافه بانشغاله التامّ بإخوان الإمارات عن غيرها من شؤون بلده العراق أو شؤون العالم الإسلامي أو العالم أجمع، فإنّه أشار حينذاك في رسالة ردّ فيها على القرضاوي لرأيه الفقهي والحركي في موضوع البيعة لدى الحركات الإسلامية وأنّها ملزمةٌ سياسياً في انتخابات مصر 2012 لأعضاء تنظيم الإخوان المسلمين، ولكنّه والفارق أيامٌ معدودةٌ أعلن بيعته الشخصية لأحد المواطنين الإماراتيين الذي أدين بحكم الدستور والقانون ودعا الحركيين الإسلاميين لمتابعته في تلك البيعة، ثم حاول التنصل لاحقاً من تلك البيعة بأنها بيعةٌ تربويةٌ دعويةٌ لا علاقة لها بالسياسة، ولا بمنازعة الحاكم حكمه. يمرّ الراشد بمرحلة من فقدان التوازن، حيث انتهى به الأمر في مؤلفاته الأخيرة إلى أن يصمم أغلفة كتبه ويقوم بتصويرها بكاميرته الخاصة ثم يركّب بعضها على بعض على نحوٍ سورياليٍ لا يمكن فهمه، والأعجب أنّه يفعل الأمر ذاته مع ما يسميه شعراً، فيلجأ لتفسيراتٍ أدبية لتلك الأغلفة والصور والتراكيب يشرح بها ما لا يشرح. أخيراً، فالمنظّرون الجدد لـ«إخوان الخليج» سيكون عليهم في المرحلة المقبلة أن يعلموا أنهم سيدخلون في مواجهة مع دولهم وشعوبهم، وأن تكشّف جماعة «الإخوان المسلمين» عن جماعةٍ إرهابية عنيفة واتجاه غالب دول الخليج لتجريمها وتجريب داعميها ومؤيديها والمروجين لها سيضعهم على مفترق طرقٍ، فإما الوطن وإما الجماعة.