في زيارة سريعةٍ استغرقت أقلّ من ثلاثة أيام، بدت لي القاهرة في حالة مخاضٍ هائل. وتختلف أنظار المراقبين من مصريين وغير مصريين، بشأن ماهية هذا المخاض ومصائره. فهناك من يعتبره دليل صحةٍ وعافية بعد حقبة الجمود الطويلة. ولذلك لا يخشى هؤلاء الإعلام الغزير، وصراعات الآراء بشأن قضايا الشأن العام. في حين يرى آخرون أنّ الأمور تجاوزت الحدود المعقولة، بحيث مستْ الأمن المجتمعي بعمق؛ وبخاصةٍ بعد ظهور العنف، واحتجاجات الإخوان المستمرة في الشارع؛ ولذلك يريدون العودة للطمأنينة من طريق سلطةٍ قويةٍ وضابطة. والملاحظُ أن هذين الإدراكين المختلفين، يمثّلان إلى حدٍ ما الفئات العُمرية المختلفة. إنّ أصحاب الميل أو النزوع الأول هم في الغالب من الشبان والشابات تحت سنّ الأربعين. وقد ظهر جموح هؤلاء في حركتي 25 يناير(2011)، و30 يونيو (2013). ولا يظهر هؤلاء كثيراً في وسائل الإعلام في المدة الأخيرة، لكنّ لهم أصواتهم المعتبرة من جانب أُناسٍ أكبر سناً، ومن أنصار التغيير المستمر. فهم ينظرون إلى الثورات باعتبارها موجاتٍ، ما أَنْ تهدأَ موجةٌ حتى تبدأَ أو تنطلقَ موجةٌ أُخرى. وهذا المزاج لا يعتبر أنّ الفوضى أو السلطة الضعيفة شرطٌ من شروط التغيير المرتجى. فيمكن أن تقوم الحكوماتُ الناظمة، ويمكن أن يظلَّ التغيير سارياً، وإن لم تظهر آثاره مباشرةً، باعتبار أنّ الحِراكَ هذا هو الذي ينشأَ على وقْعه المجتمع السياسي الجديد. وقد كان ممكناً أن يتشكّل هذا المجتمع السياسي بسرعةٍ لولا أمران اثنان. ظهور الإسلام السياسي الذي استغلَّ شهور الاضطراب ليندفع باتجاه الاستئثار بالسلطة والدولة. والأمر الثاني عودة الطبقات القديمة للعرقلة باعتبار ثبوت عدم صلاحية الشبان للحكم من جهة، وعدم صلاحية الإخوان من جهةٍ ثانية. فالحلُّ بحسب هذه النظرة يبدو في مكافحة العرقلتين: عرقلة اليمين الديني المتمثل بالإخوان، وعرقلة القوى القديمة المتمثلة برجال الأعمال وارتباطاتهم وتشابكاتهم مع أجهزة الدولة العميقة. أما الطرف أو الميلُ الثاني فهو يعتبر أنه لا بد من الإسراع بإنفاذ خارطة الطريق المتمثلة في الدستور الذي أُقرّ، والرئاسة، والانتخابات. إذ لا بد من استعادة الحياة الطبيعية للناس، وتستطيع السلطات التي تقوم بالانتخاب أن تُتابع العمليات التغييرية والديمقراطية. لا بد من تحقيق الأمن وإنهاء العنف في الشارع، لكي يمكن إجراء التغيير. وهكذا فإنّ هذين المزاجين رغم اختلافهما، عندهما قاسمٌ مشتركٌ هو ضرورة تحقق الأمن المجتمعي من طريق إخماد العنف، وإتاحة المجال للناس للإقبال على أعمالهم، وممارسة حياتهم العادية. وإذا تحقق ذلك، فإنّ التغيير سيبدو في عمل مؤسَّسات الدولة، وفي نشاطات الشباب ومشروعاتهم، وفي عودة الاستثمار أو تعاظُمه من خلال المساعدات التي قدمتها وتقدمها الدول الخليجية وانفراج جهات العمل والسياحة وفي حين يعتبر الطرفان تهدد الأمن المجتمعي، والعنف البادي في الشارع وفي الهجمات الانتحارية، والسيارات المفخَّخة، العائق الأكبر أمام ظهور المجتمع السياسي الجديد، وهذا قاسمٌ مشتركٌ بالفعل- يعودان للاختلاف في تقدير الموقف الحالي. ففي حين لا يرى أهل السكينة وتقديم الأمن على كل اعتبارٍ أيَّ خطرٍ في عودة الفئات القديمة والفساد، ولا أن يتمكن الإخوان من البقاء بالشارع- يرى فريق الشباب أنّ الخطرين يظلاّن موجودَين. ولكي لا يتمكنا من الإرباك؛ لا بُدَّ أن يستمر الحراكُ الشبابي. وهذا الحراك – كما سبق القول- لا يظهر كثيراً على لسان أصحابه، بل في الإعلام والثقافة. بينما يعتمد التيار الأول على الجيش وإدارات الدولة في عدم التمكين للإخوان من العودة، وكذلك القلة التي كانت سائدةً أيام الرئيس السابق. ما هي الملفاّت ذات الأَولوية؟ إنها الأمن، وإدارة الدولة، والاقتصاد. والطرفان متفقان في الأَولوية الأمنية، ويعتبران أو يعتبر معظمهم أن المشير السيسي هو نموذج السلطة الضابطة والناظمة. بيد أنّ التبايُنَ يعود للبروز في مسألة إدارة الدولة. ففي حين يريد الشباب تغييراً راديكالياً في الإدارة وبالذات في المقامات الكبرى والوسطى، يعتبر الآخرون أنّ في التغيير الراديكالي مخاطر يمكن أن تنجم إذا جرى التخلص من البيروقراطية، على الرغم من الإعاقات الكثيرة التي تمثّلها. والبيروقراطية على أيّ حال ملفٌ شبه مستعصٍ بمصر، وما أمكن إدخال تطويراتٍ كبرى عليها منذ قيام ثورة يوليو عام 1952. بل إنّ أحداً لا يملك خطةً لذلك، رغم كثرة المشروعات المعلنة في هذا الصدد. ويظهر الخلاف في الاقتصاد، كما ظهر ويظهر في التجاذُب بشأن إدارة الدولة. فالاقتصاد والنموّ الضروري، هما الملفّان اللذان ما أمكن التصدي لهما بجدية رغم كثرة الخطط قبل الثورة وبعدها. وبالطبع هناك فروقٌ واسعةٌ في الآراء في كيفية تحقيق النموّ، لكنها تبقى أقلَّ أهميةً (بسبب الستاندارد العالمي)، من الخلاف حول إدارة الدولة. فالاقتصاد بحسب وجهة نظر المراقبين يعتمد ازدهارُهُ على الأمن من جهة، وعلى حكم القانون من جهةٍ ثانية، وعلى كثافة الاستثمار من جهةٍ ثالثة. وإذا كانت إدارة الدولة لهذه الناحية شأناً عاماً؛ فإنّ الاقتصاد والتنمية في الأزمنة المعاصرة هما من شأن القطاع الخاصّ أو القطاعات الخاصة. وإن يكن الملف الاجتماعي الهائل المسؤوليات يفرض على الدولة واجبات لا تستطيع الخروج منها. وإذا كان الاختلاف ظاهراً في المسألتين الإدارية والاقتصادية؛ فإنّ الاتفاق حول الأمن لا يذهب بعيداً أيضاً. إذ لا يختلف اثنان أنّ الأجواء السياسية التوافقية، تسمح بعودة الأمن دون تكاليف باهظة في الأرواح والأموال. ولذلك يجرؤ أطرافٌ عديدون، لطرح المسألتين معاً: مسألة نُخَب العهد السابق، وإمكان التصالُح معها للإفادة من خبراتها، ثم كيف يمكن الخروج من عنف الإخوان في الشارع؟ وبسبب المرارات التي عاناها الناس عندما كان الإخوان حاكمين؛ فإنّ هناك كثيرين - وبخاصةٍ من القوى الشابة- لا يرون إمكان الذهاب باتجاه المصالحة أو حتى المهادنة. بينما يرى آخرون من أهل السكينة أنّ المصالحة قد تكون ضروريةً للتهدئة؛ إنما بالطبع ينبغي أن يكون ذلك من دون شروط غير الخضوع لسلطة الدولة. أما المشاركة السياسية فتأتي لاحقاً. وكما سبق القول؛ فلأنّ الإخوان أساءوا إساءاتٍ جمة، فإنّ المعارضين لمسايرتهم لكي يكفّوا عن العنف، لا يقلُّ عددهم عن عدد أولئك الذين يعارضون أيضاً العودة لبيروقراطية مبارك "فنحن مختلفون فيها بقدر خلافنا في الموقف من الإسلاميين"! لقد كانت بيروقراطية خانقة، ولا رقيب عليها تقريباً. وتستحيل العودة إليها إلا إذا تغيرت الموضوعات كلّها من ناحية اكتمال المشروع الثوري، والدخول في عقلية الغفران والتجاوز، كما هو الشأن دائماً في الثورات أو بعد الحروب الأهلية. وهناك موضوعٌ حساسٌ آخر، لكنْ ربما كان تأجيله إلى الخاتمة أفضل لبسطه على أحسن أحواله. وهو يتعلق بالسياسات الخارجية للدولة المصرية. فالواقع أنّ هناك انكفائيةً مصريةً مشهودةً خلال العشرين عاماً من حكم مبارك. وهذه الانكفائية لها أنصارها حتى اليوم. وهناك من يعيد ذلك إلى انصراف المصريين لاستعادة توازُنهم، قبل التفكير في الموضوعات الأُخرى. لقد سمعنا جميعاً أيام الإخوان، أولئك الذين يعتبرون عروبة مصر عبئاً وشِركاً أو شَرَكاً. وهؤلاء ما يزالون موجودين، وهم لا يكتفون بالدعوة لتحييد مصر(!)، بل يرى بعضهم أنّ مصر دولةٌ كبرى، فلا يجوز القصور في تحديد الدور والاتجاه إلى العرب وحدهم! بينما يرى الآخرون- لكنهم قلةٌ أيضاً- أننا نواجه ضياعاً وتضييعاً لمصر، ولا بد من تضامنٍ خليجي وعربي من أجل أن تشعر مصر بموقعها العزيز والمتميز. وهو الأمر الذي تكون له علاقةٌ بملفات التحديات والمشكلات المزمنة، وبالسياسات التي جرى سلوكها من قبل. قال عمرو موسى، رئيس لجنة الخمسين التي عدلت الدستور، وجرى الاستفتاء عليه: هناك ظرفٌ صعبٌ جداً تمر به مصر، ويمر به العرب. لكنْ لا وقت ولا انتظار ولا مُهَل. بل لا بد من النهوض مهما كلّف الأمر أو تكون السقطة هائلة لا سمح الله.