أتجه بنظري الآن إلى آسيا، بعد أن ظل مشغولاً لفترة طويلة بدول مثل سوريا وليبيا، حيث المنتج الرئيسي هو الفوضى. وفي الوقت نفسه، فإن كوريا الجنوبية وماليزيا وغيرهما من الدول الآسيوية تصنع ثلاجات رخيصة تعمل بكفاءة، ولا أحد يمنحها أي اهتمام. وإذا ما زاد إهمال الغرب لهذه الدول، فإن بعضاً منها قد يضطر إلى التحول إلى تكثيف الشراكة مع الصين. وربما يكون ذلك اختزالاً مخففاً لأهمية سياسة «التحول» نحو آسيا التي أعلنتها لأول مرة وزيرة الخارجية السابقة كلينتون في أكتوبر 2011 في مجلة «فورين بوليسي». ولكن خلال السنوات الماضية، جهدت إدارة أوباما، التي سحبت مرة أخرى إلى مستنقع الشرق الأوسط، بقوة لإقناع زعماء آسيا بأنها تسمع دعوتهم للمساعدة في حل بعض مآزق التجارة العالمية، وتحديات الأمن الإقليمي، ودور الصين المهيمن على نحو متزايد. وكان كيري في زيارة إلى آسيا. وفي الواقع، من الصعب التفكير في حدوث تحول حديث في السياسة الخارجية التي تم تسويقها لفترة طويلة. وقد ألقى أوباما خطاباً حول هذا الموضوع بعد شهر من نشر مقال كلينتون، بينما في أوائل 2013، ألقى مستشار الأمن القومي توم دونيلون خطاباً آخر أعاد فيه تسمية السياسة الجديدة بـ«إعادة التوازن» لكي يتجنب جرح المشاعر في مناطق تشعر بأن التركيز قد تحول عنها (أوروبا والشرق الأوسط). وقد كانت كل تلك الخطابات موجهة إلى الأميركيين أكثر مما هي موجهة إلى الزعماء الآسيويين المتشككين. وأيضاً أمام البرلمان الأسترالي قال أوباما: «في القرن الـ21 ستكون الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بشكل كامل». وبالتأكيد تبدو المنطقة وكأنها أولوية تأتي في مرحلة لاحقة بالنسبة لكيري الذي كرس نفسه لمواجهة أزمات الشرق الأوسط. ويعتقد أنصار التركيز على منطقة المحيط الهادي أنها هي الرهان الأفضل لأميركا، والدليل على ذلك يتمثل في اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهو اتفاق تجاري عملاق يعد بفتح الأسواق الكبرى في آسيا وأميركا الجنوبية للسلع الأميركية إلى جانب خدمات مالية وأخرى غيرها (وكذلك فتح بعض الأسواق الأميركية لمنتجات هذه الدول). وعلى رغم ذلك، فالاتفاق يواجه خطراً كبيراً يتمثل في خرقه ليس من قبل الجمهوريين الذين لا يتحملون أي نصر للرئيس، ولكن أيضاً بواسطة الديمقراطيين الذين لا يحبون الاتفاقات التجارية. وإذا لم يحصل أوباما على اتفاق الشراكة، «فإن التحول سيبدو كمزحة سيئة» كما يقول «جاري هوفباور»، وهو خبير تجاري بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي. أما الأهداف الأخرى من وراء سياسة إعادة التوازن فهي أقل تأثيراً وأقل تعرضاً للخطر. فقد وعدت الإدارة الأميركية بطمأنة بعض الدول التي تخشى المطالبات الإقليمية الصينية من خلال تكثيف الحضور البحري في المنطقة، ونشر وحدة من مشاة البحرية في أستراليا، ووضع فلسفة جديدة تضع في الاعتبار تحركات الجيش الصيني. وعلى الجبهة الدبلوماسية، يعتبر أوباما هو أول رئيس أميركي يحضر قمة شرق آسيا، ووعد بحضورها سنوياً. وقد اضطر إلى إلغاء رحلته الآسيوية أثناء إغلاق الحكومة في الخريف الماضي، ولكنه يخطط للقيام برحلة جديدة في شهر أبريل المقبل. كما أولت إدارته اهتماماً كبيراً لاتحاد دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وهي الهيئة الإقليمية الآسيوية الرئيسية. وكل هذه الجهود تثبت أن التزام الإدارة الأميركية ليس خطابياً فحسب. كما أن اتفاقية الشراكة عبر الهادئ، التي بدأ التفاوض عليها مع إدارة بوش كاتفاق يضم ست دول أو سبع دول، أصبحت الآن تشمل كندا والمكسيك واليابان -وهي ثلاث دول تعتبر من ضمن الشركاء التجاريين الأربعة الرئيسيين للولايات المتحدة- إلى جانب تشلي وبيرو وأستراليا ونيوزيلندا وبروناي وفيتنام وسنغافورة وماليزيا. وتمثل اقتصادات هذه الدول 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ويتوقع معهد بيترسون أن صافي الدخل السنوي للولايات المتحدة سيصل إلى 5ر77 مليار دولار نتيجة خفض الرسوم واللوائح التي تقضي بها الاتفاقية. كما أن اتفاقية الشراكة ليست أيضاً اتفاقية تقليدية. فهي تقضي بإلغاء التعريفة الجمركية على السلع مثل المنسوجات واللحوم، وكذلك الخدمات مثل المصارف والتأمين والتجارة الإلكترونية. كما أن نصوص الاتفاقية تتناول «الحواجز غير الجمركية» مثل حقوق الطبع وبراءة الاختراع وحقوق المستثمر وأمن الإنترنت ومعايير «اشتر المنتجات الأميركية» والحصول على الأدوية، وغيرها. إن اتفاقية الشراكة عبر الهادئ هي أكبر اتفاق تجاري في العالم، وهي الأكثر طموحاً. ويرى دونيلون أن الاتفاقية سيكون لها «تأثير مغناطيسي» بالنسبة لغير الأعضاء، وأولهم الصين التي ترى حالياً أن سياسة إعادة التوازن هي حملة مستترة للحد من قوتها. وتبدو المفاوضات التي تجري في سرية حول شروط الاتفاقية مطولة للغاية. فقد انتهت الجولة الأخيرة من النقاش التي عقدت في ديسمبر بخلاف حول السيارات اليابانية والأسواق الزراعية وقضايا أخرى مثل إمكانية دخول الأجانب في التعاقدات الحكومية. وتعتبر مواقف الولايات المتحدة هي أكبر عثرة في المفاوضات، أما باقي الشركاء فهم حكومات برلمانية (باستثناء فيتنام، وهي ديكتاتورية)، وعندهم إذا وافق الرئيس على الاتفاق، فقد انتهى الأمر. ولكن الأمر ليس كذلك في الولايات المتحدة. فالكثير من جماعات الضغط والبيئة ونشطاء الإنترنت وغيرهم يعترضون على الاتفاق. ومفهومٌ أن كل الاتفاقات التجارية يترتب عليها وجود خاسرين. ولذا فإن هذا الاتفاق التجاري الذي يسعى إلى إعادة صياغة القواعد الاقتصادية الأساسية سيؤدي إلى تعظيم المعارضة من قبل الخاسرين الحقيقيين والمحتملين، إلى جانب التأييد من المستفيدين. ومثل هذا الاتفاق، الذي يتم التفاوض عليه بسرية مثل غيره من الاتفاقات التجارية، سيثير شكاً عميقاً. وفي خطاب «حالة الاتحاد» الذي ألقاه في شهر يناير، طالب أوباما بما يعرف بـ«سلطة المسار السريع»، التي يوافق الكونجرس من خلالها على الحد من النقاش والتصويت بنعم أو لا، مع عدم وجود تعديلات. ومن غير المستغرب أن المشرعين قد يتعرضون لضغوط لرفض الاتفاق. وبدوره ذكر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي «هاري ريد» أنه لن يطرح هذا الإجراء. أما زعيمة الأقلية بمجلس النواب نانسي بيلوسي فستدعم فقط نسخة المسار السريع التي تشتمل على قواعد العمل والبيئة (والتي من المؤكد أنها ستلقى معارضة الجمهوريين). جيمس تروب زميل بمركز التعاون الدولي، بجامعة نيويورك ----------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»