من سمات سلوكنا القومي الوفرة في مجتمع الندرة أو الندرة في مجتمع الوفرة. فعلى رغم نقص المواد الغذائية إلا أن عادات الطعام أقرب إلى مجتمع الوفرة. ومع نقص الثروة الحيوانية إلا أن اللحم هو الغذاء الدائم للميسور في مصر. وفي بلد يستورد 70% من قمحه ما زال غذاؤه الأول هو الخبز. وفي الدعوات تزدحم الموائد، ويكثر الفاقد. ويمتد جدل الوفرة والندرة إلى التعليم. ففي بلد تعم فيه الأمية تكون أكبر طبقة من المتخصصين وحاملي الدكتوراه، أي الهرم المقلوب في التعليم. وفي أساليب البناء، بذخ الإسكان الفاخر وزخرفة البيوت الفخمة في مقابل الأكواخ وقاطني الأرصفة والعشش. قد يكون للبيئة الجغرافية أثر على ذلك، سكان الوديان في مقابل سكان الصحراء. فمثلاً يسكن المصريون في 4% من مساحة البلاد في مقابل 96% صحراء جرداء. وفي الوقت نفسه الذي نسلك فيه سلوك الوفرة في مجتمع الندرة، نسلك أيضاً سلوك الندرة في مجتمع الوفرة مثل نقص العمالة المتخصصة وسط كم هائل من العمالة غير الفنية الزائدة. حرف تعز فيها العمالة في مواجهة بطالة مقنّعة. وأصبح التقابل واضحاً بين ندرة السبّاك والكهربائي والنجار والحداد ووفرة الموظفين والأفندية وأصحاب المكاتب وحملة الشهادات. وندرة المبدعين المجددين وسط الجماهير الغفيرة من المثقفين والعلماء الناقلين للمعلومات. ويمكن الجمع بين النقيضين عن طريق إيجاد التطابق بين العادات اليومية ومعطيات البيئة. فندرة المواد الغذائية تقتضي الاقتصاد في الغذاء كمّاً وزيادته كيفاً كما هو الحال في المجتمع الياباني. وندرة العمالة الفنية وسط الكم الغفير من الخريجين النظريين تقتضي إعادة صياغة سياسة التعليم والقبول بالجامعات. يمكن الاعتماد على الندرة في مواطن الندرة مثل الإبداع العلمي والفني، والاعتماد على الوفرة في مواطن الوفرة مثل غزو الصحاري، ومحو الأمية، وشق الطرق، وإقامة الجسور والمسيرات الشعبية والتجمهر للمعارضة السياسية. هذا وكثيراً ما نخلط بين القضايا الخاصة والقضايا العامة. ندافع عن الخاص كباعث في إطار العام كخطاب. وبالتالي يكون تفسير الخطاب ليس في منطق الألفاظ بل في منطق البواعث. صحيح أن الذاتية لا تنفصل عن الموضوعية بل هي شرطها إلا أن هناك فرقاً بين الذاتية الخاصة التي هي أقدر على التجرد والوصول إلى العام من خلالها وبين ذاتية الهوى والنسبية والظروف النفسية والاجتماعية التي تقضي نهائياً على الموضوعية والصالح العام. ولذلك كثر تغير القوانين طبقاً لمصالح من يصدرها. وتضاربت اللوائح تبعاً لتضارب المصالح. ومن هنا أيضاً أتت التضحية بقضايا الوطن، وضعف حس الانتماء، وغاب المشرع القومي الموحد للبلاد، وتحول الشعب إلى أفراد، كلٌ يبحث عن صالحه الخاص. وأصبح الوطن مصلحتي، والدولة مقدار ما تقدمه لي من تسهيلات. ومع ذلك، وفي ساعات العسرة، وفي وقت الخطر، تظهر الروح الوطنية العامة، وتنمحي المصالح الشخصية، وتطغى المصلحة القومية الواحدة. حدث ذلك في ثورة عرابي، وفي ثورة 1919، وفي ثورة 1952 وفي حرب 1967، وفي حرب 1973 سواء كانت المبادرة من جانب الدولة أم كانت الثورة من جانب الشعب. يضحي الأب في سبيل الأسرة، والابن الأكبر في سبيل تربية الإخوة الصغار في حالة وفاة الأب. وكذلك تضحي الأم «الشغالة» إذا ما فقدت زوجها لتربية أولادها... إلخ. ويمكن التوسط بين هاتين السمتين إيثاراً للصالح الخاص على الصالح العام، ثم التضحية بالصالح الخاص من أجل الصالح العام بأن تشعر الأمة بلحظات الخطر باستمرار، وألا تستكين أو تستسلم أو أن تدخل في معارك جانبية أو وهمية، وتترك معركتها الرئيسية. ففي لحظات الخطر والصراع من أجل البقاء تتراجع المصالح الخاصة في سبيل الصالح العام. طالما أن الفرد يشعر بالمواطنة وبأنه ينتمي إلى كل فإن تحقيق مصلحة الكل فيه تحقيق لمصلحته الخاصة. ومن هنا تأتي أهمية تربية المواطن ودور الدولة أن تكون لكل المواطنين. كما تقل الهوة بين المصلحتين المتعارضتين عن طريق وجود نظام سياسي تتحد فيه المصالح الخاصة بالمصلحة العامة مثل عدالة التوزيع، وحرية المواطنين، وحق المواطن في التعليم والعمل والإسكان. والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين. وعلى رغم تشخيص العلاقات الاجتماعية والعلاقات المهنية والعلاقات السياسية إلا أن الفرد لا يأخذ زمام المبادرة، ويترك نفسه تسيره الأمور خاضعاً لمجرد الحوادث بلا تمايز بينه وبينها، وبلا مفارقة. يخضع للقدر، ويستسلم للقضاء. ويغني للمقادير. لا يبدأ بفعل شيء إلا في أضيق نطاق مع أن غياب النسق يسمح بإبراز المواهب الفردية في تسيير شؤون العمل بلا قانون واعتماداً على العلاقات العامة. هذه المواهب الفردية وظيفتها تسيير الأمور وعدم تعطيل المصالح وليس لخلق جديد. وفي الأمثال العامة «الكون له رب يسيره»، و«ما حدش يقدر يعدل نظام الكون». وما أكثر الأغاني والمواويل الشعبية التي تتناول المقادير التي قد ترمي الإنسان إلى غير إرادته. وفي الوقت نفسه الذي تمحي فيه المبادرة قد يظهر نشاط الإنسان المخفي في صورة مرضية وهو حب الظهور، والتقرب للمسؤولين، وأخذ مكان الصدارة، والحديث فيما يعلم وفيما لا يعلم، والإفتاء في كل شيء فيصبح شخصية إعلامية اجتماعية مرموقة. ويصبح نجماً في فريق الكرة ببطولاته الفردية. فتقوم الهيئة أو المؤسسة على أكتاف رجل واحد يعمل، تتكدس فوق مكتبه الملفات، والآخرون لا يفعلون شيئاً. كيف في مقابل كم. وبطولة مطلقة في مقابل لامبالاة تامة. ولذلك كثرت مفاهيم البطل الأوحد، والفارس المغوار، وابن البلد، و«الفتوة»، و«الجدع» وأصبح التاريخ كله من صنع الأبطال. ويمكن تجاوز القوة بين النقيضين عن طريق إذكاء الوعي القومي حتى ينمحي الفرق بين الإنسان العادي والإنسان المتميز، بين الصفوة والجماهير، بين الشعب والزعماء. ويمكن إعادة كتابة التاريخ وإعادة بناء بعض الموروث الديني الطويل بحيث تبرز قيمة الجماهير فتقل مركزية الأبطال.