بينما يصرح أوباما بأنه يريد التركيز على الداخل الأميركي وإنهاء عقد طويل من الحروب التي كبدت أميركا كلفة باهظة وهزت مصداقيتها في الخارج، وفيما تتصاعد أيضاً أصوات انعزالية في أميركا تدعو للابتعاد عن مشاكل العالم، هناك بالمقابل تاريخ يكشف أن ثنائية الانعزال والتوسع، والانكفاء والتمدد، معطى ثابت في السياسة الأميركية تجاه العالم، ونمطاً يكاد يتأرجح بين كفتيه كل الرؤساء الذين تعاقبوا على أميركا. هذه الخلاصة هي ما توصل إليه الأكاديمي الأميركي والدبلوماسي السابق، سيتفان سيستانوفيتش، في كتابه الجديد «المطالب القصوى... أميركا في العالم من ترومان إلى أوباما»، وفيه يرجع إلى التاريخ السياسي الأميركي الحديث لرسم خريطة تعامل الرؤساء الأميركيين مع العالم وتعاطيهم مع السياسة الخارجية، وذلك في ضوء بعض المتغيرات الداخلية والخارجية. وقد تبين للكاتب أن رؤساء أعلنوا في أيامهم الأولى لدخول البيت الأبيض رغبة في التركيز على الداخل وعدم الانجرار للمغامرات الخارجية المكلفة، مثل نيكسون الذي قال في خطابه الأول أمام الكونجرس: «إن أميركا لا تستطيع التخطيط لكل شيء ولا وضع كل البرامج، أو اتخاذ كل القرارات، وهي بالقطع لا تستطيع حماية كل البلدان الحرة في العالم»، هم من كانوا الأسرع في تغيير مواقفهم. فنيكسون نفسه شن حملة قاسية من القصف الجوي على فيتنام، وأطلق مبادرة الانفتاح على الصين، وأرسى مساعي تحقيق الانفراج مع الاتحاد السوفييتي، ومع أنه بدأ رئاسته منكفئاً على الداخل الأميركي ومنعزلا عن العالم فقد انتهى به الأمر منخرطاً في صراعاته. هذا التأرجح المتأصل في أميركا بين غواية الهيمنة على العالم والرغبة في الابتعاد عنه، كانت دائمة حاضرة لدى الرؤساء الأميركيين، كما أن الانتقال من وضع إلى آخر أمر دائم الحدوث في السياسة الأميركية. فبعد فترة من الحروب أو بعد تجارب خارجية وانخراط مكثف مع مشاكل العالم، ينشأ نزوع لدى الإدارات الأميركية بالانسحاب من العالم على غرار ما جرى بعيد الحرب العالمية الثانية، إلا أن ذلك لم يدم طويلا، حيث سرعان ما ظهر التهديد السوفييتي لتتصاعد المطالب التوسعية وتعزيز الحضور الأميركي في العالم. وبالعكس من ذلك عندما تسود مرحلة من الهدوء تحقق فيها أميركا تراكمات اقتصادية تعود النزعة الخارجية للظهور مجدداً لتنشط الآلة الدبلوماسية أو تندفع الأحداث نحو تدخل عسكري، وهما الآليتان الأساسيتان لممارسة النفوذ الأميركي. ومن بين الرؤساء الأميركيين الذين يستشهد الكاتب بمسيرتهم للتدليل على ثنائية الانكفاء والتوسع يبرز نيكسون الذي بدأ منعزلا ثم انتهى متوسعاً، وأوباما الذي أكد أن «عمليات بناء الأمم الطويلة» و«الحضور العسكري الكبير» لم يعودا من أدوات السياسية الأميركية. لكن، وفيما عدا تلك الثنائية التي ميزت تعامل الرؤساء الأميركيين مع القضايا العالمية، يغوص الكاتب عميقاً في تمثلات تلك الثنائية حالياً في سياسة أوباما كما يفند الفكرة القائلة بأن السياسة الخارجية الأميركية وليدة التوافقات الكبرى في واشنطن، فخلافاً للاعتقاد السائد يقول الكاتب، لاسيما خارج الولايات المتحدة، بأن هناك عقلا ما يجلس في زاوية ليبلور الخطط الاستراتيجية الموجهة للعالم، غالباً ما تخضع تلك السياسية لإكراهات الموازنة، والأخطاء في السياسات المتبعة، وغلبة المصالح السياسية الآنية في واشنطن، وهي السمات التي طبعت السياسية الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية. وعندما ينتقل الكاتب في تحليله إلى أوباما يوضح أنه يواجه الإشكالية نفسها التي اعترضت أسلافه، فهو حين أعلن عزمه تقليص الحضور العسكري في العالم، واجه جملة من التناقضات، بين سياسته الانكفائية، وبين الاستدارة نحو آسيا والتركيز على قضاياها. هذا التناقض يقول الكاتب بلغ ذروته ليتجسد واضحاً في كيفية تعامل الإدارة مع الأزمة السورية. فبينما استبعد فيه أوباما الخيار العسكري انسجاماً مع أطروحة التقلص الأميركي، واصل بحثه عن حل سياسي، والحال أنه بدون ضغط عسكري لا يمكن تحقيق تقدم على الصعيد السياسي أو إنجاح المساعي الدبلوماسية، وهو ما اتضح جلياً في مفاوضات جنيف-2 الفاشلة. والأمر نفسه يمكن استشفافه من التعامل مع الملف النووي الإيراني، فبدون الضغوط الأميركية والغربية على طهران، ما كانت أبرمت اتفاق جنيف المرحلي. لكن الكاتب يؤكد أنه حتى لو كان العنوان العريض للمرحلة الحالية هو الانسحاب الأميركي، يبقى الانعزال، أو الانخراط في شؤون العالم، مسألة متغيرة، بل خاضعة للتوازنات الداخلية والخارجية. زهير الكساب ---- الكتاب: المطالب القصوى... أميركا في العالم من ترومان إلى أوباما المؤلف: سيتفان سيستانوفيتش الناشر: نوف تاريخ النشر: 2014