ليس مهماً حجم تلك الأموال التي صرفت في تنظيم الألعاب الشتوية في روسيا «أولمبياد سوتشي 2014»، والتي تجاوزت 60 مليار دولار. إنما المهم هو تذكير العالم بأن هناك عودة قادمة لروسيا، على أنقاض الاتحاد السوفييتي السابق، الدولة التي فقدت كبرياءها في غفلة من الزمن. هذا خلاصة ما يمكن قراءته من تفكير الرئيس فلاديمير بوتين، الذي أجبر الرئيس بوريس يلتسين قبل 12 عاماً على ترك الحكم، حيث انتُخب بعد ذلك رئيساً لروسيا، ومن يومها وهو الحاكم الفعلي فيها. يشترك في فهم هذه الرسالة والرغبة في تحقّقها، الكثير من المحللين الروس وبعض أفراد الشعب في الجمهوريات التي كان يحكمها الاتحاد السوفييتي السابق، بل إن الأمر يتسع ليشمل العديد من دول الشرق الأوسط التي تعتبر الآن الساحة مناسبة لممارسة «الرياضة السياسية» للدول الكبرى. وهناك من يرى أن اختيار مدينة «سوتشي» كان متعمَّداً لبث العديد من الرسائل الداخلية والخارجية؛ فهي مدينة مجاورة لجمهوريات تنتشر فيها الحركات الإسلامية المتطرفة؛ داغستان، والشيشان، وإنغوشيا، وبالتالي فإن نجاح التنظيم دليل على نهاية الفوضى. إذن، المسألة تحسن صورة بوتين وصورة روسيا في الخارج. ينبغي ألا يفاجئنا أمر استخدام الرياضة وسيلةً لبث رسائل سياسية؛ لأن التاريخ يشهد بأن الرياضة منذ القدم ارتبطت بالسياسة وبالدبلوماسيين. وقد استخدمت في عودة العلاقات الأميركية الصينية (دبلوماسية البينج بونج) في السبعينيات، وكذلك استخدمت لتوجيه رسالة سلبية عندما رفضت الولايات المتحدة المشاركة في ألعاب موسكو 1980 وبعدها بأربع سنوات رفض السوفييت المشاركة في ألعاب لوس أنجلوس. بالإضافة إلى أن السياسيين استخدموها لتغيير مسار اهتمام الرأي العام لقضايا داخلية مهمة، وكان الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك يُعتبر الأفضل في ذلك. واعتبرها الزعيم الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا مدخلا لإيجاد «اللحمة الوطنية» وتوحيد الشعب الجنوب أفريقي، وذلك عندما كان يحضر استعدادات الفريق الوطني للمباراة النهائية: «كرة الرجبي» بين فريقي أستراليا وجنوب أفريقيا. وفي المباراة النهائية ارتدى مانديلا «الأسود» لأول مرة في تاريخ جنوب أفريقيا، وهو لون اللباس الوطني لمنتخب بلاده. استخدامات الرياضة -بغض النظر عن نوعيتها- متعددة الأوجه. ولو حاولنا إسقاط هذا على ألعاب «سوتشي 2014» لوجدنا أن بوتين يشعر بانتعاش داخلي منذ 2008، عندما نجح في استضافة الأولمبياد. وبالتالي يكون من السذاجة اعتبار المسابقات الرياضية مسألة ترفيهية ومنافسات شريفة كما كانت. كما أن اقتراب السياسيين منها ليس مسألة بريئة بالكامل، بل إن اللقاءات الرياضية تستخدم أحياناً باعتبارها مكاناً مناسباً لإجراء مناقشات سياسية واستراتيجية مهمة بين القادة بحيث تكون بعيدة عن فضول الإعلاميين. ويبقى أن من ينتقد مسألة الصرف المالي المبالغ فيها، سواء في «سوتشي» أو غيرها من الأماكن الأخرى في العالم، وسواء كان من يوجه النقد الرئيس أوباما أو غيره؛ هو إما أنه يتناسى التاريخ والخبرات الإنسانية التي مرت بنا والتي تؤكد ارتباط الرياضة بسياسة الدول، أو أنه لم يستطع التفكير فيها كبروفات سياسية للتعبير عن مكانة السياسي وبلاده في العالم. السياسيون اليوم يتصرفون على أنهم رياضيون، وأحياناً على أنهم فنانون، مثل الرئيس الشيشاني قيدروف، الذي يدرك ولع شعبه بالرقص فتجده يرقص بلا شعور، أو الرئيس التركي الذي قام بأداء أغنية لمطرب محبوب لدى الشعب التركي. الاهتمام بالرياضة يقدم لنا أحياناً تفسيرات معينة لوجهات السياسيين واهتماماتهم، بل يوجد رابطاً بين أهل السياسة والمجتمع. والأكثر من ذلك، يمكننا من قراءة أحداث الساعة بين الدول ومعرفة توجه دولة معينة تجاه الدول الأخرى. وبوتين عندما «يبذخ» في الصرف على تنظيم بطولة، ويختار مدينة معينة، يفسر البعض ذلك بأنه بروفة لعودة الدور السياسي الدولي «المفقود» منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. وما يشجع المراقبين على طرح هذا الرأي حالة التراجع في السياسة الأميركية في العالم، وخاصة في ملفات الشرق الأوسط، «الساحة السياسية» التي عادة ما تتنافس فيها السياسات الدولية. الأجواء المخيمة في الساحة الدولية تشير إلى عودة روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط. ومن يتابع التحركات الإقليمية نحو الخارج، فسيجد أن اتجاهها يقود نحو روسيا، وربما كانت زيارة المشير عبدالفتاح السيسي، وزير الدفاع المصري، والشخصية المحتملة لأن تكون على قمة الهرم السياسي المصري، تؤكد ذلك، بل إن هناك ميولا في الشرق الأوسط للعديد من الدول الغاضبة من السياسات الأميركية الجديدة، سواء في التقارب مع إيران أو تلك السياسة الأميركية المتراجعة عن الضغط على الأسد كي يرحل. وفي المقابل هناك ارتفاع في رغبة روسيا في أن تكون البديل في العديد من ملفات المنطقة وحالة الانتعاش الذي يعيشه بوتين تعكس مدى نجاحه في العديد من الملفات الدولية. وهناك رغبة روسية في العودة إلى أمجاد الاتحاد السوفييتي ما قبل الانهيار، وهذه الرغبة دفعت مؤيدي بوتين إلى التغاضي عما تفعله السياسة الروسية في منطقة الشرق الأوسط من دعمها لأنظمة شمولية مثل النظام السوري، وعن حالة القمع لجيرانها الذين يرغبون في الاتجاه إلى الغرب، بل يجدون مبررات في مواقف بوتين الداخلية والخارجية باعتبارها مسألة طبيعية لعودة الدولة العظمى. أعتقد أن هناك حالة خوف وهلع من عودة الدور الروسي في المنطقة، رغم أن عودته تبدو صعبة في الوقت القريب. إن تجربة انهيار الاتحاد السوفييتي تؤكد أن «لعب» السياسة الدولية يحتاج إلى قوة اقتصادية تدعمها، والاقتصاد الروسي لا يزال يعاني. كما أن معايير القوة في العالم تغيرت، فلم تعد تكفي القوات العسكرية وحدها أو عدد الجنود. إن عودة الدور الروسي لن تكون سهلة، وهذا الأمر يدركه بوتين كما يدركه المحللون السياسيون. والأمر يحتاج إلى عمل شاق وفترة طويلة بعدما خسرت روسيا العديد من الحلفاء في العالم، ولكن «سوتشي» تبقى مصدر قلق من إمكانية استعادة روسيا دورها السياسي الدولي. وبوتين لم يهمه من حضر ومن لم يحضر من رؤساء دول العالم، بل انصب تركيزه فقط على إظهار نفسه وبلاده للعالم وكأنه يقول: «إننا قادمون».