مُنذ حوالي شهرين ونيف، دعونا في الجامعة الأميركية بالقاهرة وزير الخارجية المصري- نبيل فهمي- إلى حوار عام حول السياسة الخارجية المصرية. ومن الملاحظ أن فهمي هو من أنشط الوزراء في الحكومة المصرية الحالية، كما أنه يأتي إلى وزارة الخارجية معتمداً على إرث كبير، شخصي ومهني. فهو ابن وزير الخارجية المصري الأسبق إسماعيل فهمي، الوزير المصري الوحيد تقريباً في تاريخ هذا البلد الذي استقال علناً ولم يُقل، وذلك اعتراضاً على زيارة السادات المفاجئة للقدس في نوفمبر سنة 1977، وعدم استشارة الوزير المختص في هذا الشأن. لكن رغم هذا الإرث الشخصي، فإن نبيل فهمي ليس بالفرد الذي «يخرج من جلباب أبيه»، فبالرغم من استقالة والده، وحتى غضب السادات عليه، إلا أن هذا لم يمنع نبيل فهمي من التدرج في مناصب قيادية في وزارة الخارجية حتى إنه أصبح سفير مصر لدى الولايات المتحدة لمدة تسع سنوات متصلة، وهي تقريباً أطول مدة يقضيها سفير لجمهورية مصر العربية في واشنطن. كان من الطبيعي إذن، بسبب خبرة هذا الوزير وبسبب أجواء التوتر التي تحيط بالعلاقات المصرية الأميركية حالياً، أن تحتل العلاقات بين البلدين الجزء الأكبر من الحوار المذكور. واتفقنا سريعاً مع ما وصل إليه الدكتور فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية بكلية لندن للاقتصاد، في كتابه الهام عن أوباما والشرق الأوسط، من أن السياسة الأميركية، حتى في رئاسة أوباما الثانية، هي استمرارية أكثر منها تغييرية. فعلى الرغم من أن خطاب أوباما في جامعة القاهرة، في يونيو سنة 2009، كان موجهاً للعالم الإسلامي بأسره، وكان يعد بفتح صفحة جديدة، إلا أن حُسن النوايا هذا لم يتحقق بعد، ويبدو أن واشنطن هي التي غيَّرت من أوباما أكثر مما هو غيَّر من واشنطن. فبعد وصوله للبيت الأبيض كأول رئيس أميركي من أصل أفريقي، وإعلان اختلافه مع سياسات سلفه بوش الابن وزمرته من المحافظين الجدد.. أبقى أوباما على وزير دفاع بوش، كما أنه أعاد تعيين دينيس روس، اليهودي الصهيوني والوسيط السابق في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وتزداد الأمثلة على هذا التوجه، أي على استمرارية السياسة الأميركية في منطقتنا خلال رئاسة أوباما الأولى والثانية، بوصفها امتداداً للسياسات الأميركية خلال الإدارات السابقة. ومع ذلك فإن هُناك تغيير في سياسة أوباما، ولكن أساساً فيما يتعلق بالأولويات: 1- الاهتمام بالوضع الداخلي، وخاصة في ناحيته الاقتصادية، لأن أوباما وفريقه يعتقدون أنهم ورثوا وضعاً كارثياً من بوش وجماعة المحافظين الجدد، وهم في ذلك محقون في واقع الأمر. ولنا هنا أن نتذكر أن وصول أوباما نفسه للرئاسة في سنة 2009 جاء غداة أزمة خطيرة عصفت بالنظام البنكي بل بالاقتصاد الأميركي ككل، وامتدت آثارها إلى أجزاء أخرى من العالم. إنما الاهتمام بالناحية الداخلية يتعدى الاقتصاد بمفهومه الضيق ليشمل النظام الضريبي، علاوة على موضوعات اجتماعية مثل تعميم الرعاية الصحية. وعلى الرغم من أن الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون حارب من أجل هذه الرعاية الصحية، إلا أنه فشل بينما نجح أوباما. ونتيجة هذا التركيز على الناحية الداخلية، هي التردد في أي تدخل عسكري في منطقة الشرق الأوسط، إذ اعتمد أوباما على دور «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) في ليبيا للتخلص من نظام القذافي، كما أنه قاوم الضغوط- حتى من جانب بعض حلفائه الإقليميين الرئيسيين- من أجل التدخل العسكري الأميركي في سوريا، حتى بعد مأساة استخدام السلاح الكيماوي في دمشق. وهكذا تأتي سياسة أوباما الشرق الأوسطية إجمالا في مرحلة تالية على سياسته الداخلية، وذلك على أساس عقلاني يقوم باحتساب الفوائد والتكاليف. 2- ومن ناحية حساب الفوائد والتكاليف، هناك جزء كبير من فريق أوباما يود إدارة الظهر لمنطقة الشرق الأوسط، على أساس أنها منطقة كلها متاعب ومشاكل مستعصية، يصعب الحصول فيها على إنجازات وإحراز نجاحات. كما أن مشكلة المنطقة تزداد تعقيداً في نظرهم بعد مفاجأة «الربيع العربي» وسرعة وتيرة التغيرات، بل حتى عدم وضوح الرؤية. وعقب مغادرة هيلاري كلينتون وزارة الخارجية ثم وصول سوزان رايس من الأمم المتحدة لتكون مستشارة أوباما للأمن القومي، تم عقد مؤتمر داخلي في أواخر أكتوبر 2013 لمراجعة السياسة الخارجية الأميركية. بعد هذا الاجتماع أعلنت سوزان رايس أن سياسة واشنطن يجب أن تتجه، حيث تكون الفائدة، وخاصة ناحية منطقة المحيط الهادئ وآسيا، حيث هُناك عالم كامل طالما كان قليل التأثير على أولويات الاتجاه إلى آسيا أو مواضيع النفط وقناة السويس وإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط. هل يعني هذا أن تترك واشنطن المنطقة لنفوذ دول أخرى، سواء أكانت روسيا أم الصين؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة المحافظة على اهتماماتها الشرق أوسطية إن لم تكن حاضرة في المنطقة؟ إذا كان الاهتمام بالباسفيكي لا يمر جغرافياً بمنطقة الشرق الأوسط، بل عن طريق كاليفورنيا والساحل الغربي، فهل تستطيع أميركا إهمال بقية آسيا وحلقة الوصل عن طريق المرور بمنطقة الخليج؟ لا شك أن النقاش سيستمر في كواليس واشنطن.