هناك الكثير من الجدل حول ما يدور في المنطقة العربية من حراك سياسي، وتحديداً ما يُسمى إعلامياً بـ "الصحوة العربية"، ويتمركز هذا الجدل في الكثير من جوانبه حول حدود تأثير العاملين الخارجي والداخلي في تحريك المياه الراكدة وتغذية موجات الاحتجاج الشعبي والجماهيري التي كانت شرارة التغيير في بعض الدول العربية بغض النظر عن فحوى هذا التغيير ومساراته ونتائجه على الأرض. وقد استغرق الكثيرون في فهم هذه الظاهرة السياسية، التي اجتاحت بعض مناطق العالم وبدت في بعض الدول مثل "تسونامي" بجرف المشهد السياسي بأكمله، في حين بدت في دول أخرى مثل ضوء خاطف لمع، ثم ما لبث أن خمد وانطفأ، ولكن تحليل الظاهرة يقع في معظم الأحيان أسيراً لنظرية "المؤامرة"، بحيث يُخضع الظاهرة بأكملها للتفسير في ضوء هذه النظرية، أو يدور في فلك ما تنتجه من تفسيرات مصحوبة بمحاولات فاشلة لإنكار نسب هذه التفسيرات وارتباطها الأصلي بالفكر التآمري. وفي خضم هذه الأجواء، صدر في الأيام الأخيرة كتاب للمفكر الاستراتيجي الدكتور جمال سند السويدي، مدير عام "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية"، بعنوان "آفاق العصر الأميركي: السيادة والنفوذ في النظام العالمي الجديد"، ورغم شمولية موضوع الكتاب وتناوله المعمق للصراع بين القوة العظمى الوحيدة المهيمنة على النظام العالمي الجديد وبقية القوى الكبرى المنافسة أو الطامحة إلى مزاحمة اللاعبين الكبار في القرن الحادي والعشرين، فإنه يفسر الكثير مما يدور من حولنا وما ننتظره مستقبلاً كعالم عربي مرتبك وسط محيط سياسي عالمي هادر ومتلاطم الأمواج. على سبيل المثال، نلحظ أن الكثير من المثقفين العرب يروّجون لما يعتبرونه فشلاً أميركياً في إدارة الأزمة السورية وفقاً للمزاج السياسي الأميركي الذي يرون أنه كان دافعاً باتجاه توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد على غرار السيناريو الليبي، وأن التوجه الأميركي في هذا الشأن تحطم على صخرة "الفيتو" الروسي- الصيني، وهنا يطرح الكتاب زاوية عميقة في التحليل السياسي وقراءة حصيفة للفكر الاستراتيجي الأميركي، وهي أن الخيارات العسكرية قد تراجعت ضمن حسابات صانع القرار الأميركي لمصلحة القوة الذكية، وأن التعاطي مع الأزمات بما يحقق أهداف الاستراتيجية الأميركية لم يعد بالضرورة يعني تركيزاً على الحل العسكري، بل باتت القوة الذكية صاحبة قصب السبق في هذا المجال، ومن ثم فإن ما حدث في الأزمة السورية تحديداً أن واشنطن نالت أهدافها بمجرد التلويح بالضربة العسكرية ثم الانعطاف إلى استخدام القوة التفاوضية والتحرك الدبلوماسي لتحقيق الأهداف ذاتها بوسائل مغايرة تتسق والتخطيط الاستراتيجي الأميركي في السنوات الأخيرة، ما يعني بدوره انتصاراً للرؤية الأميركية في هذا الشأن، وليس استسلاماً أو رضوخاً للمعارضة الروسية ـ الصينية للضربة العسكرية! وبحثاً عن موقع لدولنا العربية في النظام العالمي الجديد الذي تناوله هذا الكتاب، توقفت أيضاً عند بعض المحطات والمنعطفات التي نحتاج - كدول عربية - إلى استيعابها ودراستها جيداً، ومن بين ذلك قول الكاتب: "لقد بات القول بأن العولمة توجه غربي وأميركي السمات أمراً من الماضـي، بعد أن تجذرت هذه الظاهرة وانتشـرت أفقياً ورأسياً، وأصبحت جزءاً أساسياً من مصالح دول واقتصادات صاعدة. وقد لا يكون من المبالغة القول إن الصين، لا الولايات المتحدة الأميركية، هي الرابح الأكبر من انتشار العولمة. ولذا لم يعد الحديث يدور عن كبح جماح العولمة أو لجم تقدمها، بل اقتصـر في أفضل الأحوال على سبل معالجة سلبياتها وتعظيم مردودها في ظل شيوع الاستفادة من الفكر النيوليبرالي، حيث التراجع المتزايد في دور الدولة يمضـي بموازاة الاندفاع الهائل لآليات تحرير الأسواق". هذا الكلام يعني في مضمونه أن العالم أجمع في مواجهة واقع لا مرد عنه، وأن علينا أن نكف عن ترديد نغمة التآمر الغربي على الدول العربية، فالعولمة باتت مصلحة مشتركة للقوى التقليدية والصاعدة في العالم، وبالتالي فإن عزف بعض مثقفي الماضي على وتر مناوأتها أو الرهان على سقوطها وتراجع موجاتها يمثل هدراً للوقت والجهد واستنـزافاً للفكر فيما لا طائل من ورائه، ولذا فإن علينا البحث عن فرص وسط التحديات، والنبش في ركام الواقع العربي الجماعي المتردي بحثاً عن انطلاقة جديدة للتعايش مع ديناميات النظام العالمي الجديد ومتغيراته. ثمة جزئية بالغة الأهمية يتناولها الكتاب في أكثر من موضع؛ وهي تلك المتعلقة بمزيج القوة الشاملة في القرن الحادي والعشرين، والتي يبرز من بينها التعليم والبحث العلمي كأحد أهم روافد القوة الشاملة للدول، وهو رافد لا يحظى، للأسف، بالاهتمام المستحق في الكثير من الدول العربية، التي لم تفطن بعد إلى أن موارد القوة باتت خليطاً هائل التنوع، ولم تعد تنحصر في الأطر العسكرية والأمنية وحتى الاقتصادية؛ فالمعرفة، كما يقول الكتاب، هي السلعة الأكثر رواجاً في القرن الحادي والعشرين وهي عامل الحسم في سباق الأمم، ومن ثم يصبح من المحتم أن تنتبه الدول العربية إلى موقعها في هذا السباق، وأن تنتبه إلى الخطر الاستراتيجي الداهم الذي ينتظر المتخلفين عن انطلاقته الأولى. وكي نفهم حقيقة ما يسمى بـ"الربيع العربي"، أعتقد أن علينا أن نفكر كثيراً في القضية التي ركز عليها هذا الكتاب أيضاً، وهي مسألة مصير الدولة - الأمة في القرن الحادي والعشرين، فلا شك أن قدراً كبيراً مما حدث في بعض الدول العربية في السنوات الثلاث الماضية قد تحقق على قاعدة تآكل دور الدولة - الأمة لمصلحة فاعلين آخرين مؤثرين في بنية النظام العالمي الجديد، ومن بينها منظمات المجتمع المدني والشركات عابرة القارات ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، بل والأفراد أيضاً الذين يتحولون تدريجياً إلى صيغة "المواطن العالمي" العابر للجغرافيا والتاريخ وحدود السيادة التقليدية للدول والحكومات! وقد ربط المؤلف بين هذه الجزئية تحديداً والنقطة الخاصة بالعولمة بشكل رائع، حيث لفت انتباهنا إلى التأثيرات المتبادلة بين هذين المتغيرين حين قال: "إن تأثيرات العولمة في الدولة - الأمة تبدو واضحة في حالة الدول الضعيفة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتعليمياً وعسكرياً، باعتبار أن هذه الدول لا تمتلك حوائط صد ذاتية دفاعية كافية للاشتباك الإيجابي مع موجات العولمة والاستفادة منها أو على الأقل تحجيم تأثيراتها. كما أن هذه الدولة غير قادرة على تحصين نفسها في مواجهة الأفكار العابرة للقارات، وبالتالي لا تمتلك المقدرة على التفاعل مع العولمة إيجابياً بما يتماشـى مع مصالحها". وهذا يعني أن ضعف الدولة- الأمة في بعض حالات المحيط العربي وسقوطها فريسة لداء "الدولة الرخوة" بما يعنيه من انتشار للفساد وغياب التخطيط والترهل الإداري، يقود بداهة إلى الوقوع بين براثن سلبيات العولمة على قاعدة ضعف المناعة الذاتية للدول. ورغم أن الكتاب يرسم في خاتمته سيناريو متشائماً نسبياً للعالم العربي، فإن هذا السيناريو يتعامل بمنطق الطبيب الذي يكاشف مريضه بحقيقة الداء، وهذه نقطة إيجابية تُحسب للمؤلف، فالعرب بحاجة إلى استفاقة من غفوتهم التاريخية التي استغرقوا فيها على وقع الشعارات والأمنيات واستحضار الماضي تارة، وعلى الصراع الديني/ السياسي والاستغراق في الغيبيات تارة أخرى؛ فالحقيقة، كما يقول الكتاب أن المدى المنظور لا يحمل الكثير من الوعود للمشهد العربي، بل إن القضية المركزية الوحيدة التي كانت تجمع العرب على شتاتهم، وهي القضية الفلسطينية، باتت عامل فرقة ولم تعد نقطة التقاء، وتراجعت مكانتها في الوعي الجمعي العربي لمصلحة الانكفاء على الذات المحلية في كثير من الدول العربية، التي طالما احتلت الصدارة في الدفاع عن الحق الفلسطيني. هذه مرئيات وحقائق بالغة الأهمية فهل تجد من يتعاطى معها بالاهتمام الذي تستحق؟