أصبحت الصين خلال السنوات الأخيرة ملء سمع العالم وبصره بفعل قصة الصعود الاقتصادي الهائل التي حققتها، وتحولها إلى بلد يتصدر القوى الدولية البازغة، ويسعى لشغل موقع أقوى وأبلغ تأثيراً على المسرح الدولي كله، تساعدها على ذلك موارد طبيعية كثيرة، وشركات ذات انتشار عالمي، وتطور متنامٍ بشكل ملفت في القطاعات التكنولوجية المتطورة، ولا يبدو أن أي شيء يترك للصدفة على طريق تعاظم مكاسب التنين الصيني في كافة المجالات، وفي زوايا الدنيا الأربع. وقد تحولت الصين اليوم إلى أكبر دائن للولايات المتحدة، وهي من تتوجه إلى الأنظار لتمويل المآزق والعجوز المالية الغربية، في ذات الوقت الذي تلعب فيه أيضاً دور بنك دولي «مكرر» وخزانة العالم النقدية بالنسبة للدول النامية والفقيرة! وفي سياق تفسير خلفيات ودوافع وروافع كل هذا الصعود الصيني يأتي كتاب الأكاديمي الفرنسي كلود ميار: «الصين. مصرفي العالم» الصادر مؤخراً ليجيب على أسئلة من قبيل: على أية موارد وإمكانيات تتغذى حقاً كل هذه القوة المالية التي تتمتع بها الصين اليوم، وخاصة في مقابل الدول الغربية التي ترزح في إسار أزمات مالية ونقدية لا يبدو حتى الآن أي ضوء في نهاية نفقها؟ وما هي العوامل المحفزة لانتشار الصين المالي عبر العالم؟ ولأية أهداف؟ وهل ستحل العملة الصينية «اليوان» في النهاية محل الدولار؟ ومن خلال كشف اللثام عما يعتبره حقائق ووقائع تفسر التحول المالي الاقتصادي الصيني، لا ينطلق الكاتب من أحكام قيمة مسبقة أو صور نمطية، ولا يجامل أيضاً أو يمسك الأمور من المنتصف بقبول ما قد يبدو له أنه دعاوى أو أنصاف حقائق. ويرى الكاتب أن تحرك الصين اليوم على المسرح الدولي بخطوات واثقة، ونظرتها إلى المستقبل بسقف تطلعات عالٍ، إنما يمثل في الواقع تعبيراً عن «نهضة الشعب الصيني» بحسب العبارة الأثيرة إلى نفس الرئيس «كسي جينبينج»، وهو في هذا ينطلق من أرضية صلبة تتيحها الوفرة المالية، وقوة وتنافسية الصادرات وتنوعها دولياً بشكل لا ينافس. وأهم من هذا كله توافر ملاءة مالية هائلة يكفي أن مخزوناتها تعادل الناتج السنوي الألماني تقريباً. ولهذا استحقت الصين الآن صفة «مصرفي العالم» لأنها تضع في جرابها من النقود ما يجعل مختلف الاقتصادات الكبرى رهينة لديونها، أو لاستثماراتها. وفي كلتا الحالتين: توفير القروض، وضخ الاستثمارات، لا تجد الصين أية قوة اقتصادية غربية قادرة على منافستها في المرحلة الراهنة. وبين دفتي كتابه الواقع في 350 صفحة، يستعرض الكاتب تفصيلاً بعض أوجه قوة الاقتصاد الصيني، والأسباب التي جعلت بكين أكثر قدرة من العواصم الغربية على الادخار وتجميع المال، وطبيعة العلاقة بين المصرفيين الصينيين، والشركات، والحزب الشيوعي الحاكم، وصولاً إلى استشراف ما يمكن أن تتكشف عنه قوة الصين الاقتصادية من ظهور نزعات أحادية وتصليب مواقف في مواجهة غرب متقهقر اقتصادياً، وبالتبعية متراجع سياسياً أيضاً على المسرح الدولي. ولتكوين فكرة مبدئية فقط عما تعنيه قوة حالة الصين المالية يكفي أن نعرف فقط أن نصف احتياطياتها المالية من العملات الصعبة تكاد تكفي لسداد الديون السيادية لكل من اليونان، والبرتغال، وإيرلندا، وإسبانيا، مجتمعة. والنصف الثاني يسمح لها بشراء كل من شركات غوغل، وآبل، وماكروسوفت، وآي بي إم، وجميع ما في مانهاتن بنيويورك من أبراج. وفي ظل هذه القوة المالية وما باتت القوة المرنة عموماً تتيحه من إمكانات ترجمتها إلى أشكال أخرى أكثر صلابة من قوة الدور والحضور والتأثير يؤكد المؤلف أن طموحات إمبراطورية الوسط -الصين- لا تنطلق من فراغ، ولذا فإن جعل عملتها قابلة للتحويل هدفه الحقيقي هو إدخالها في دائرة الحصرية المغلقة لعملات الاحتياطيات الصعبة، أي تلك النوعية من العملات التي توضع في الصناديق إلى جانب السبائك الذهبية. ولعل السؤال الأكثر تشويقاً هنا هو معرفة ما إن كان الهدف الحقيقي على مسار هذا الطموح هو جعل الورقة النقدية الصينية الحمراء «اليوان» تحل في يوم ما، قريب أو بعيد، محل الورقة الخضراء الأميركية «الدولار»؟ وهو سؤال -واحتمال- يبدو أن الصينيين يضعونه بشكل جاد في أذهانهم، ولذا يتعين على الغربيين التفكير فيه بجدية هم أيضاً. حسن ولد المختار الكتاب: الصين... مصرفي العالم المؤلف: كلود ميار الناشر: فايار تاريخ النشر: 2014