أدركت من القراءة المتمعنة للتعليقات المتعددة التي نشرها قرائي الكرام على شبكة الإنترنت حول مقالي الماضي «كيف سيواجه الرئيس الأزمة المركبة» (نشرت في 10 فبراير 2014) أن الرسالة التي أردت إيصالها للقراء وهي أهمية وضع تصورات محددة للمهام التي ينبغى على الرئيس القادم لمصر أياً كان أن يبادر للقيام بها قد وصلت. وقد قدم القراء تصورات متعددة لأسبقية المهام التي ينبغي على الرئيس أن يقوم بها حتى تتحقق أهداف ثورة 25 يناير، وتؤمن الجماهير الحاشدة التي اجتمعت في ميدان التحرير لإسقاط النظام السياسي القديم أنها بدأت تجني ثمار كفاحها الطويل في سبيل تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وقد خلصت في مقالي السابق إلى نتيجة أساسية حين قررت «أن المهمة الأولى التي ستقع على عاتق الرئيس المنتخب ستكون هي أن يقدم تقريراً متكاملاً للشعب يشخص فيه المشكلات تشخيصاً دقيقاً، وعليه أن يعمل منذ اللحظة الأولى على مكاشفة الناس، وعليه أن ينظم حواراً مجتمعياً حول رؤية استراتيجية لمصر حتى تلتزم بها الوزارات التي ستتولى التنفيذ». وينبغي قبل أن نسترسل في الحديث عن الملامح الأساسية للصورة الاستراتيجية المرغوبة لمصر أن نقدم لها تعريفاً دقيقاً يبرز ملامحها الأساسية. وقد ورد في أحد المصادر الموثوقة تعريف دقيق للرؤية الاستراتيجية يرى أنها «صورة ذهنية لما ينبغي أن يكون عليه عالم المستقبل. وبلورة الرؤية الاستراتيجية ينبغي أن يسبقها التنبؤ بتطورات الواقع الحالي، لتقدير الصورة التي سيتشكل عليها المستقبل. والمفكر الاستراتيجي الذي سيناط به صياغة الرؤية الاستراتيجية لابد أن يتأمل التاريخ، ويشخص الموقف الراهن، ويفحص الاتجاهات السائدة. والاستراتيجية ليست سوى آلية العبور للتحرك من العالم الذي تنبأنا بتطوراته المستقبلية إذا ظل الحال على ما هو عليه، إلى العالم الذي صغنا ملامحه في رؤيتنا الاستراتيجية، ومن المهم التركيز على أن الرؤية الاستراتيجية تساعد في توجيه صياغة الاستراتيجية وفي تنفيذها على السواء، إنها تجعل الاستراتيجية تتسم بالمبادرة بدلاً من أن تكون مجرد رد فعل عن المستقبل». وفي تقديرنا أن هذا التعريف من أشمل وأدق التعريفات التي أعطيت للرؤية الاستراتيجية في التراث النظري المعاصر. ولعل العنصر الأول من تعريف الرؤية الاستراتيجية بكونها صورة ذهنية لما ينبغي أن يكون عليه عالم المستقبل، يدفع إلى إثارة السؤال الأول في عملية الإصلاح أو التغيير وهو: ما هي الصورة التي نريد للمجتمع المصري أن يكون عليها بعد ربع قرن من الآن، وضعاً في الاعتبار إعطاء مساحة زمنية كافية للإصلاحات الشاملة لكي تؤتي ثمارها، بما تتضمنه من تفاعلات اجتماعية معقدة، تتضمن من بين ما تتضمنه القبول الاجتماعي للتغيير، أو مقاومته من قبل بعض المؤسسات أو جماعات المصالح، ومدى النجاح في مواجهة هذه المقاومة. غير أن العنصر الثاني يعد حاسماً، وهو ضرورة التشخيص الدقيق للحالة الواقعية الراهنة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتشخيص الواقع ليس مهمة سهلة كما يظن عديد من الناس. ذلك أن الواقع ليس مجرد معطى ملقى أمام الناس، ويمكن لهم أن يتفقوا على توصيفه! ذلك أنك لو طرحت السؤال عن الواقع المصري فلن تعدم من أصحاب المصالح من يقول لك ليس هناك أبدع من ذلك! ولكنك على الطرف المقابل ستجد أصواتاً متعددة يشوبها اليأس والقنوط تؤكد أن الواقع مرير وأن السلبيات تغمر كل شيء، وأن الفساد دب في كل المواقع! وكالعادة سنجد أصحاب الرؤية المتوازنة الذين لا يهولون ولا يهونون، والذين يمارسون ما نسميه النقد الاجتماعي المسؤول، فينقدون السلبيات بجسارة، ولكنهم أيضاً -سعياً وراء موضوعية الحكم- يبرزون الإيجابيات بقوة. وفى تقديرنا أننا في حاجة في المقام الأول لأصحاب الرؤية المتوازنة حتى لا تضيع الحقيقة بين أوهام الإنجازات الخارقة وسحابات اليأس الخانقة! غير أن ذلك التوجه لا يكفي بذاته، فنحن في حاجة إلى منهج علمي صارم تقوم على أساسه طريقة موضوعية للتقييم، لا تنهض على أساس الانطباعات العابرة، أو التعميمات الجارفة، وإنما في ضوء مؤشرات كمية وكيفية، ينبغي إتقان صنعها حتى لا تميل الكفة هنا أو هناك، وتكون قادرة على القياس الموضوعي. ويكفي في هذا الصدد أن نضرب مثلاً بارزاً بتقييم العائد من التعليم في مصر. وزارة التربية والتعليم في عهد «مبارك» قررت- وفقاً لشهادات دولية متعددة- أن التعليم قد ارتقى، وارتفع مستواه وقارب في ذلك بلاداً متقدمة! غير أن الرأي العام يرى رأياً مضاداً مفاده أن التعليم في حالة انهيار، ويشهد على ذلك مؤشرات شتى أهمها شيوع الدروس الخصوصية، وانخفاض مستوى المتعلمين. وإذا كان وصف الواقع بدقة هي المهمة الأولى في صياغة الرؤية الاستراتيجية، إلا أن الجزء الأهم فيها، هو ما هي صورة المجتمع المصري التي نريدها بعد ربع قرن. على سبيل المثال، ما هي الصورة المبتغاة التي ينبغي أن توجه سياسات الإصلاح السياسي؟ هنا ندخل في صميم التحديات الخاصة بصياغة الرؤية الاستراتيجية. يمكن القول إن الجماهير قد استقرت- وخصوصاً بعد 30 يونيو وبعد خبرات مريرة مع حكم الإخوان المسلمين الاستبدادي -على أن الإصلاح السياسي لا يجوز له أن يقنع بتطبيق آليات الديموقراطية مثل إجراء الانتخابات النزيهة ولكنه ينبغي أن يرقى لمستوى تحقيق قيم الديموقراطية، وأهمها على الإطلاق التداول السلمي للسلطة، والحوار، والحرص على التوافق السياسي، وأهمية الحلول الوسط. وهناك رغبة شعبية مؤكدة في ضرورة الالتزام بخريطة الطريق، والتي أنجزنا منها وضع الدستور والاستفتاء عليه والموافقة شبه الإجماعية بصدده وتبقى بعد ذلك الانتخابات الرئاسية التي ينبغي أن تكون تنافسية ولا تتم عن طريق «البيعة» للمشير «السيسي» الذي يتمتع بشعبية جارفة. وقد كان إعلان «حمدين صباحى» المرشح السابق للرئاسة بأنه ينوي الترشح أيضاً هذه المرة موفقاً غاية التوفيق، لأن معنى ذلك أن الانتخابات الرئاسية ستكون تنافسية، والرأي النهائي سيكون للشعب مما يعطي للديموقراطية الوليدة ملامحها الأصيلة. ولكن لو انتقلنا إلى الرؤية الاستراتيجية الاقتصادية فقد لا نجد إجماعاً عليها. وذلك أنه ليس هناك اتفاق عام بين كافة الاتجاهات السياسية في مصر على أن سياسات التكيف الهيكلي وحرية السوق وحرية التجارة وكل ما نصت عليه العولمة هي السياسة الاقتصادية المثلى الكفيلة بحل أزمات الاقتصاد المصري الحادة. وأخيراً في مجال الإصلاح الثقافي كيف سنواجه الصراع العنيف بين رؤية للعالم تركز على الدين باعتباره الحل الأمثل للمشكلات، وهذه الرؤية قد تجنح بطريقة مباشرة وغير مباشرة إلى تغيير معالم الدولة لتصبح دولة دينية -كما سعى إلى ذلك فعلاً حكم الإخوان المسلمين- وتلك رؤية مضادة لطبيعة الدولة المصرية، والتي هي دولة مدنية تقوم على التشريع ولا تقوم على الفتوى، وتؤمن بفصل الدين عن الدولة وليس فصل الدين عن المجتمع. كل هذه اعتبارات جوهرية ينبغي وضعها في الاعتبار عند التصدي لصياغة رؤية استراتيجية لا تنفرد النخبة بوضعها، ولكن لابد للجماهير أن تساهم في صياغتها في سياق حوار مجتمعي مفتوح لا يقصي أي تيار سياسي.