هل يتحول «جنيف-2» إلى ساحة للتفاوض من أجل التفاوض وفقاً للطريقة التي يجيدها النظام السوري؟ وهل هذا هو خيار المجتمع الدولي لإسكات ما بقي فيه من ضمير بعد عجزه عن وقف أكبر مأساة إنسانية في العالم الراهن؟ وإلى أي حد يستطيع المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي إقناع نفسه بما أعلنه تقييماً للجولة الأولى التي انتهت يوم الجمعة قبل الماضي، وهو أن «التقدم بطيء جداً، لكن الجانبين انخرطا بأسلوب مقبول»، وأن ما حدث «بداية يمكن البناء عليها»؟ هذه، وغيرها، أسئلة مثارة لدى كل من يعنيه مصير سوريا وشعبها في الوقت الذي استؤنفت فيه «المفاوضات» ضمن جولة ثانية أمس الأول. فقد انتهت الجولة الأولى بدون أي تقدم في موضوع المؤتمر والقضايا التي يتضمنها، سياسية وإنسانية على حد سواء، الأمر الذي يصعب في ظله فهم حديث الإبراهيمي عن حدوث «تقدم بطيء جداً» ووجود «بداية يمكن البناء عليها». والأرجح أنه، وغيره ممن يحاولون إقناع أنفسهم والعالم بأن نظام الأسد ذهب إلى مونترو وجنيف للتفاوض، يعوّلون على مجرد جلوس وفد هذا النظام بالقرب من وفد الائتلاف الوطني السوري المعارض في غرفة واحدة. فقد كرر الإبراهيمي مرات كلامه عن أهمية جلوس الوفدين في غرفة واحدة، رغم أنهما تحدثا إلى بعضهما البعض من خلاله وليس بشكل مباشر. وخلص في تقييمه للجولة الأولى إلى أنهما «اعتادا الجلوس قرب بعضهما البعض في غرفة واحدة»، حيث يجلس هو في الوسط بينهما بعد أن يدخل كل منهما من باب مختلف إلى القاعة رقم 16 بمبنى الأمم المتحدة في جنيف. ومُهم بطبيعة الحال قبول الوفدين أن يجلسا في غرفة واحدة، حتى إذا لم يتبادلا الكلام بشكل مباشر، لما يعنيه ذلك من اعتراف ضمني ببعضهما البعض بخلاف ما حدث مثلا في مفاوضات الهدنة العربية الإسرائيلية عام 1949 حين كانت الوفود تجلس في غرف مختلفة بل في طوابق متباينة ولا تلتقي أبداً. وليست هناك مبالغة في هذه المقارنة لأن العداء بين النظام السوري والمعارضة الآن لا يقل حدة عن مثله بين العرب وإسرائيل عام 1949، بل يزيد. كما أن عدد ضحايا قمع النظام السوري أكبر بكثير، سواء من حيث القتلى والمصابين أو اللاجئين. هذا فضلا عن أن نظام الأسد ظل ينكر وجود معارضة سياسية ويتهم قادتها وكوادرها بأنهم إما خونة ومأجورون أو إرهابيون وتكفيريون. لذلك لا يخلو من أهمية جلوس الوفدين في غرفة واحدة، حتى إذا كانت الطاولة التي تشبه حرف «يو» باللغة الإنجليزية، صُممت بطريقة تفصل أكثر مما تصل بينهما. لكن هذا التقدم الإجرائي ليس هدفاً في ذاته، بل وسيلة. فإذا لم تؤد الوسيلة إلى تحقيق تقدم موضوعي أي باتجاه تحقيق الهدف، وهو التوصل إلى حل سياسي للأزمة على أساس بيان «جنيف-1» الصادر في 30 يونيو 2012، تفقد قيمتها وتصير عديمة الجدوى. لذلك يصبح السؤال المحوري هو: لماذا ذهب وفد النظام السوري إلى جنيف وجلس مع وفد الائتلاف الوطني في غرفة واحدة؟ فالإجابة على هذا السؤال هي التي تحدد مدى وجود أفق لمؤتمر «جنيف-2» من عدمه، وما إذا كان الجلوس على طاولة واحدة في الغرفة نفسها يعني بالضرورة إجراء مفاوضات حتى إذا تبادل الوفدان الحديث مباشرة بعد ذلك وليس عبر الإبراهيمي. والحال أن المعطيات التي أحاطت الترتيب لعقد «جنيف-2» جعلت مشاركة النظام السوري فيه ضرورية لثلاثة أسباب، ليس من بينها استعداده للتوصل إلى حل سياسي على أساس «جنيف-1». أولها الضغط الذي مارسته روسيا عليه بالتوازي مع استخدام الولايات المتحدة نفوذها على الائتلاف الوطني السوري، في إطار اتجاه الدولتين الكبيرتين إلى إعادة ترتيب التوازن الدولي في منطقة الشرق الأوسط ودور كل منهما فيها. وثانيها محاولة تحسين صورته على المستوى الدولي وتحويل «جنيف-2» إلى منصة يُطلق منها قذائف إعلامية في الوقت الذي تواصلت قذائفه المدفعية والصاروخية وبراميل باروده في مناطق عدة بسوريا. أما السبب الثالث فهو شعوره بالثقة أخيراً نتيجة التغير الذي حدث في ميزان القوى على الأرض لمصلحته منذ منتصف العام الماضي. وقد استغل وفد النظام بالفعل وجود وسائل الإعلام العالمية في مقر المؤتمر لترويج خطابه الذي يصر على تجاهل جوهر الأزمة واختزال الصراع في سوريا وعليها إلى معركة ضد الإرهاب، سعياً لكسب تعاطف الرأي العام الذي تحسب حكومات الدول الغربية حسابه. وكان واضحاً في تشكيل الوفد السوري الرسمي برئاسة وزير الخارجية أنه ليس وفداً للحوار من أجل حل أزمة داخلية، بل للقيام بحملة علاقات عامة على المستوى الدولي. لذلك بذل قصارى جهده لرفع قضية مواجهة الإرهاب إلى صدارة المشهد رغم أنه جاء –رسمياً– وفق خطاب دعوة يتضمن أن بيان «جنيف-1» بكل مشتملاته (بما فيها تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة) هو المرجع الذي يُعقد على أساسه مؤتمر «جنيف-2». وهكذا ذهب وفد النظام السوري لكسب الوقت وإعطاء انطباع بأنه يتجاوب مع الجهود الدولية إلى أن يحين موعد «الانتخابات» الرئاسية القادمة التي ستبدأ إجراءاتها في مايو المقبل قبل شهرين على انتهاء ولاية الأسد في يوليو. فإذا حل موعد هذا الاستحقاق في غياب تقدم موضوعي باتجاه الاتفاق على تشكيل هيئة حكم انتقالية، ستُجرى انتخابات شكلية محسومة سلفاً في ظل هيمنة أجهزة النظام عليها في محاولة لتجديد شرعيته. والأرجح أن الوفد السوري سينتهج استراتيجية «تفاوضية» قريبة من تلك التي استخدمها نظيره في مفاوضاته مع إسرائيل عقب مؤتمر مدريد 1991. فقد اعتمد المفاوضون السوريون في تلك المفاوضات على تبديد الوقت عبر إثارة قضايا فرعية وتفريع كل منها إلى عدد من المسائل الأصغر وإغراق الإسرائيليين في فيض من الوثائق الورقية والصوتية التي تتناول تاريخ الصراع العربي الصهيوني في مجمله منذ 1948. وسيلجأ الوفد السوري في هذا السياق إلى التلاعب بجدول الأعمال والهرب من قضية الحل السياسي إلى المسائل الإنسانية وإقحام موضوع الإرهاب في كل منهما، بينما يواصل النظام غاراته القاتلة التي لم تتوقف طول الجولة الأولى. وهكذا فرغم استمرار «مشهد» المفاوضات الذي يوحي باهتمام دولي فائق بوضع حد لمأساة الشعب السوري، يبدو أن هذه المأساة مرشحة للاستمرار إلى أجل غير معلوم.