لا أعتقد أنني أستطيع أن أعاود الكتابة في هذه الصفحة العزيزة التي باتت تتبوأ موقع الصدارة بين صفحات الرأي في الصحف العربية دون أن أعبر عن عميق امتناني للمسؤولين عن هذه الصفحة الذين تفهموا أسباب غيابي طيلة ما يزيد على ثلاثة أشهر ورحبوا باستئنافي الكتابة بمجرد عودتي من رحلة علاجية ناجحة بحمد الله. كذلك لا بد أن أعبر عن الامتنان نفسه لعديد من قراء هذه الصفحة الذين طوقوني بمشاعر رقيقة وحانية فور علمهم بمحنتي الصحية. تصادفت عودتي إلى الكتابة مع مرور سنوات ثلاث على بداية أحداث ما عرف بـ«الربيع العربي» الذي نجح في إطاحة أربع قيادات في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، طال زمن حكمها عقوداً عديدة وارتبط بدرجات متفاوتة باستبداد سياسي وفساد اجتماعي واضحين. فيما بقيت حتى الآن قيادات أخرى، كالقيادة السورية، سواء باستخدام العنف المفرط وتماسك قاعدة القوة التي تستند إليها أو بإجراء عدد من الإصلاحات التي تكفلت بعبور الأزمة. وكان الأمل في البداية أن تؤدي هذه التطورات إلى تحسن ملموس -وليس تغييراً جذرياً- في أوضاع النظام العربي. ولماذا ليس تغييراً جذرياً؟ لأنه كان واضحاً منذ الأشهر الأولى لأحداث الربيع -أنه لن يطول الدول العربية كافة اتساقاً مع الخبرة التاريخية القريبة والبعيدة. ولكن هذا الأمل في إصلاح أوضاع النظام العربي لم يتجسد حتى الآن لاعتبارات موضوعية، أولها أن الثورات وإنْ كان بعضها أو عديد منها ينجح في إحداث تغيرات سريعة موضوعية إلا أنها تحتاج إلى سنوات عديدة قد تمتد لعقد أو اثنين أو حتى أكثر كي تُتم آثارها الكاملة. وثانيها أن «دول الربيع» قد مرت بعدم استقرار واضح ظهر في المجالين الأمني والسياسي، وارتبط بذلك تدهور واضح في الأوضاع الاقتصادية واستمرار الجمود في المسألة الاجتماعية، وليس من شأن هذا أن يجعل هذه الدول قادرة في المدى القصير على إدخال الإصلاحات المرجوة على النظام العربي. أما الاعتبار الثالث، فهو أن «الربيع العربي» قد أسهم في تفاقم ظاهرة التفكك التي كان بعض الدول العربية قد بدأ يعاني منها أو من خطرها كما في وضع الصومال منذ تسعينيات القرن الماضي، وانفصال جنوب السودان في العقد الأول من هذا القرن، والتهديد بتفكيك العراق إلى دويلات ثلاث في أعقاب الغزو الأميركي في العقد ذاته، وخطر انفصال جنوب اليمن عن شماله فيما يعود بالأوضاع في اليمن إلى ما قبل عام 1990. ولكن «الربيع العربي» فاقم من ظاهرة التفكك كما سبقت الإشارة، إذ إنه باستثناء تونس ومصر اللتين اقتصر الأمر فيهما على عدم الاستقرار، فإن ليبيا تواجه خطر تفكك قد تبادر به المنطقة الشرقية، كما أن الاندفاع إلى انفصال الجنوب في اليمن صار غلاباً، وهو اندفاع ربما يكون الحوار اليمني الأخير قد كبح جماحه. ومن شأن هذا التفكيك أن يفاقم من ظاهرة الصراع بين وحدات النظام العربي بالنظر إلى أن العلاقات بين الدول التي تنشأ عن تفكك دولة واحدة تتسم عادة بدرجة عالية من درجات الصراع حتى ولو كان التفاهم على الانفصال قد تم سلمياً. ولكن ثالثة الأثافي، أن قوى ما يسمى «الإسلام السياسي» قد استطاعت أن تبرز إلى مواقع صدارة في دول «الربيع العربي» على الرغم من أنها لم تكن القوى المبادرة الوحيدة أو الرئيسية في حركات التغيير في هذه الدول، ففي تونس تمكنت «حركة النهضة» من الحصول على أكبر عدد من المقاعد في المجلس التأسيسي، وهو ما مكنها من تشكيل الوزارة برئاستها، وفي مصر حدث ما هو أكثر، إذ تمكن «الإخوان المسلمون» بدورهم من الحصول على أكبر عدد من المقاعد في مجلس الشعب وبتحالفهم مع حزب «النور» لامسوا أغلبية الثلثين في المجلس، فضلاً عن الرئاسة، وكان من تحصيل الحاصل أن يختار من ينتمي إليهم رئيساً للوزارة، وفي ليبيا مارس «التيار الإسلامي» نفوذاً واضحاً على مجريات الأمور، وهو الأمر الذي كان مرجحاً حدوثه في اليمن حال إجراء الانتخابات النيابية القادمة، هذا فضلاً عن وجود حكم «إسلامي» في غزة والسودان، وقد كانت هذه التطورات تهدد بتلاشي «النظام العربي» لحساب نظام «إسلامي» تدخل فيه وتؤثر عليه قوى لها فهمها غير المقبول للإسلام، غير أن الأمور لحسن الحظ لم تسر في هذا الاتجاه، حيث أخفقت قوى الإسلام السياسي في أن تحقق أي هدف من أهداف الثورات العربية في دول «الربيع»، وإذا أخذنا مصر باعتبارها أهم دول «الربيع»، فإن «الإخوان المسلمين» قد أظهروا إخفاقاً ذريعاً في الحكم ناهيك عن مؤشرات استبداد واضح وعلامات على فساد ينبئ بأوخم العواقب، ومحاولات نجحت ولو جزئياً للسيطرة على مفاصل الدولة من قمة الهرم إلى قاعدته، بحيث يختزل الوطن في جماعة «الإخوان المسلمين». وأضيف إلى ذلك، استخدام «الإخوان» العنف المفرط تجاه خصومهم، ومعاناة الشعب من أزمات حياتية طاحنة، وانكشاف القدرات بالغة المحدودية لرئيس الجمهورية السابق، وقد أدى هذا إلى ظهور حركة شبابية جديدة أطلقت على نفسها اسم «حركة تمرد» نجحت في جمع ما يزيد على عشرين مليون توقيع وفقاً لمصادرها على وثيقة تطالب بتنحي الرئيس السابق وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وأعلنت أن أنصارها سينزلون إلى الشارع ولن يتوقفوا عن التظاهر حتى يستجاب لمطالبهم وذلك يوم 30 يونيو في ذكرى مرور عام على تولي رئيس الجمهورية السابق مهام منصبه، ومع ازدياد الاحتقان بين «الإخوان» ومعارضيهم، أعلنت قيادة القوات المسلحة قبل ذلك التاريخ بأسبوع أنها تعطي القوى السياسية مهلة أسبوع للتوافق فيما بينها وهو ما لم يحدث. وفي التاريخ الموعود، خرجت الجماهير على نحو غير مسبوق دون أن يؤدي ذلك إلى استجابة الرئيس السابق للحد الأدنى من مطالبها، وهنا تدخلت القوات المسلحة بمبادرة جديدة تضمنت مهلة 48 ساعة لإنهاء هذا الموقف الذي أظهر بوضوح إرادة التغيير لغالبية واضحة من الجماهير. وعندما انتهت المهلة، أعلنت قيادة القوات المسلحة في 3 يوليو بعد التشاور مع قيادات قوى المعارضة والرموز الدينية عزل الرئيس السابق وتولية رئيس المحكمة الدستورية رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة، مع إعلان «خريطة طريق» لمستقبل سياسي جديد يستند إلى أسس ديمقراطية، تم منها تعديل الدستور الذي كان «الإخوان المسلمون» قد انفردوا تقريباً بوضعه. وعلى رغم المعارضة الشرسة لجماعة «الإخوان»، فإنه يبدو الآن أن قوتها قد وهنت، بالإضافة إلى التصاعد المذهل لشعبية القائد العام للقوات المسلحة لتصديه لخطر «الإخوان» غير عابئ بالتأييد الأميركي لهم. وقد أدت هذه التطورات دون شك إلى تراجع شعبية المشروع «الإخواني» لمستقبل الوطن العربي ليس في مصر وحدها وإنما في أقطار الوطن العربي كافة، وبالذات تلك التي عانت من هيمنة القوى المسماة بقوى «الإسلام السياسي»، وقد تكون مصر مقبلة على انتخاب رئيس جمهورية يفوز بأغلبية كبيرة وينجح في إقالتها من عثرتها، خاصة أن النظام الحالي فيها يحظى بمساندة سعودية إماراتية وكويتية واضحة، وقد ينجح هذا التحالف في حقن النظام العربي بعناصر قوة هو في مسيس الحاجة إليها.