إذا كان التعبير هو أحد مظاهر السلوك من خلال اللغة، فاللغة سلوك، والخطاب فعل، فإن أول تناقض يظهر في سلوكنا القومي هو تناقض المستور والمفضوح، السر والعلن أو ما سماه القدماء، الظاهر والباطن، التجلي والستر، الجلاء والخفاء. فغياب الصراحة هو سلوك على مستوى القول والمعنى، أن يفيد القول معنى غير المقصود منه لفظاً. التعبير لدينا ليس مطابقاً للمعنى المقصود. إنما يكون أقل فيخفي أو أكثر فيفضح. لا يعبر المتكلم عن كل ما يقصد إلا رمزاً أو إيماء، أو يفيض بعبارات أكثر مما يتحمل القصد. العبارات ضيقة أو واسعة ولكنها ليست على القدر والمقاس. أصبح للكلام مدلول أقل أو مدلول أكثر. وقد يكون للكلام مدلول معارض. قد تعني نعم لا، وقد تعني لا نعم. قد يعني الرفض القبول، وقد يعني القبول الرفض على ما عُرف في البلاغة القديمة: المدح على سبيل الذم والذم على سبيل المدح. ولذلك ظهر فن التأويل، ومعرفة القصد، والدخول إلى الباطن، والتعرف على السرائر، وسبر الأغوار. وأصبحت لتأويل النص سبعة أوجه أي سبعة أعماق للتفسير. وازدهرت الباطنية بصرف النظر عن فضائحها، بتعبير الغزالي. وتردد بيننا سؤال: ماذا يعني؟ ماذا يقصد؟ والمعنى في بطن الشاعر. أصبحت اللغة وسيلة لإخفاء المشاعر الحقيقية. ?فالسكوت? ?نطق? ?عن? ?طريق? ?التعبير? ?الأقل.? ?والنطق? ?سكوت? ?عن? ?طريق? ?الثرثرة، ?وتحصيل? ?الحاصل، وفك? ?المجالس.? ?ولذلك? ?كثر? ?صمت? ?الصوفية، ? ?وعبّروا? ?عن? ?مواجدهم? ?بالرمز.? ?ولهذا? ?كثر? كلام بعض ?الفقهاء، ??وملأوا? ?المجلدات? ?بالفتاوى? ?والخطب. وفي نفس الوقت قد تتعدد ظواهر الثرثرة في حياتنا اللغوية. وتمثلت في الآداب الشعبية في شخصية «الست الرغاية» أو في شخصية «أبو لمعة». كما تظهر في حديث الطلاب في الصفوف الأخيرة في الفصول الدراسية، والحديث في وسائل المواصلات العامة وفي الطرقات خاصة وقت الحوادث، وتجمهر الناس، والتطوع بالنصائح حتى يكثر اللغط، ويزداد الصراخ. كما يُسمع الصوت المرتفع داخل الأسرة وفي حديث الأفراد فيما بينهم لساعات طوال، وفي الأحاديث التلفونية وكأن بُعد المسافة يمكن تجاوزه بالصراخ عبر الأسلاك أو الهواتف المحمولة، وهي الظواهر التي قصدها الشاعر الحديث بإشارته إلى العنتريات التي ما قتلت ذبابة، منطق الناي والربابة، وهو ما يعادل الانفعال الزائد في وجداننا القومي الذي يظهر في تملكنا فنون الخطابة وأساليب الإثارة وبراعتنا في فنون الكلام. ومع ذلك يمكن تقليل المسافة بين الطرفين عن طريق وضع الكلام على قدر المعنى حتى يصبح للكلام ثقل، ويقوم بدوره في إيصال المعاني. والقصد في القول أكثر مدعاة للتصديق. وهذا هو تعريف البلاغة القديم: اختيار القول طبقاً لمقتضى الحال. ويسهل ذلك إذا ما اقتضى القول فعلاً، والكلام عملاً. كما قد تبدو ثنائية القول والعمل في عديد من النشاطات الوطنية في أجهزة الإعلام وفي الخطب السياسية وفي حياة الأسرة. ولا تزال الصيحة القديمة منذ الإصلاح الديني «ما أكثر القول وأقل العمل».? ?فالقول? ?فعل، ??واللغة? ?سلوك.? ?القول? ?إعلان، ??والفعل? ?التزام.? ?أما? ?وظيفة? ?اللغة? ?عندنا? ?فهي? ?تطهير? ?للأزمات? ?النفسية? ?الناتجة? ?عن? ?الضنك? ?وشظف? ?العيش.? ?ومن? ?هنا? ?أتت? ?أهمية? ?الخطاب? ?السياسي? ?الذي? ?ينتظره? ?الناس? ?فيريحهم? ?نفسيا?ً ?بعد? ?سماعه? ?وكأن? ?مشاكلهم? ?قد? ?حُلت? ?وأزمتهم? ?قد? ?فرجت.? ?الكلام? «?فك? ?مجالس?»?.? ?وفي? ?المثل? ?الشعبي? «?أسمع? ?كلامك? ?يعجبني? ?أشوف? ?أمورك? ?استعجب?!» ?أو? «?خد? ?من? ?كلام? ?الشيخ? ?ولا? ?تأخذ? ?من? ?أفعاله?» ?أو? «?كلام? ?الليل? ?مدهون? ?بزبدة? ?يطلع? ?عليه? ?النهار? ?يسيح?»?.? ?وهي? ?نفس? ?الثنائية? ?بين? ?الظاهر? ?والمؤول، ? ?وعدم? ?تطابق? ?اللفظ? ?والمعنى.? ?ولكن? ?هذه? ?المرة? ?مع? ?دخول? ?الفعل? ?كطرف? ?مقابل? ?للقول.? ?وهو? ?أيضاً? ?ما? ?يعادل? ?الانفعال? ?الزائد? ?في? ?وجداننا? ?القومي.? ?فالقول? ?هنا? ?انفعال? ?وليس? ?سلوكاً.? ?وفي? ?المثل? ?الشعبي? ?أيضاً? «?الكلب? ?اللي? ?يهوهو? ?ما يعضش?»?.? ?ونضع? بعض ساستنا ?موضع? ?السخرية? ?وهم? ?يخطبون? ?أمام? ?الميكروفونات، ?ومن? ?مسؤولينا? ?وهم? ?يصرخون? ?بأن? ?المشاكل? ?قد? ?حُلت، ?وبأن? ?الأزمات? ?قد? ?اختفت، ??وبأن? ?عنق? ?الزجاجة? ?قد? ?تم? ?تجاوزه.? ?وكله? «?كلام? ?جرائد?» ?أو? «?تصريحات? ?مسؤولين?» ?أو? «?كلام? ?في? ?الهوا?»?.? ?وكذلك? ?إرسال? ?برقيات? ?التأييد? ?للمحاربين، ??وبرقيات? ?الاستنكار? ?للمعتدين، ?ووضع? ?الهمة? ?في? ?إصدار? ?قرارات? ?لمجلس? ?الأمن? ?للدفاع? ?عن? ?الحقوق، ?وشجب? ?الاعتداء.? ?تبدو? ?سهولة? ?القول? ?في? ?أنه? ?مجرد? ?مخارج? ?للألفاظ? ?عن? ?طريق? ?الشفتين، ? ?وتحريك? ?اللسان، ?بصرف? ?النظر? ?عن? ?الفكر? ?أو? ?الاعتقاد? ?أو? ?السلوك.? ?أصبح? ?القول? ?مكتفياً? ?بذاته? ?لا? ?يحيل? ?إلى? ?شيء? ?خارج? ?عنه، ??لا? ?إلى? ?فكر? ?ولا? ?إلى? ?فعل? ?ولا? ?إلى? ?وجود.? ?يُعقد? ?مؤتمر? ?إصلاح? ?التعليم، ?وتقدم? ?الأوراق، ??وتقال? ?الخطب? ?وكأن? ?التعليم? ?قد? ?تم? ?إصلاحه? ?بالفعل.? ?ويُلقى? ?تصريح? ?عن? ?أهمية? ?الديمقراطية? ?وأنه? ?لا? ?رجعة? ?عنها? ?وكأن? ?الديمقراطية? ?قد? ?مارسناها? ?بالفعل.? ?فالكلام? ?يتحقق? ?بمجرد? ?الإعلان? ?دون? ?توسط? ?الفعل.? ?وقد? ?دفع? ?ذلك? ?أحد? ?الشعراء? ?المحدثين? ?في? ?الغرب? ?إلى? ?السخرية? ?من? ?ذلك? ?لأنه? «?في? ?البداية? ?كان? ?الفعل?»?.? أما العمل فهو كالقول الضيق نظراً لأنه يتطلب التحقيق والإنجاز والتأثير والفاعلية كما يتطلب رؤية للواقع لا يعطيها القول. العمل يقتضي توجيه الطاقة لا من خلال اللسان بل عن طريق اليد، ليس بالإعلان النظري ولكن بالتغيير الفعلي. ولذلك ارتبط الإيمان بالعمل في القرآن الكريم. وأصرت بعض الفرق قديماً على أن من لا عمل له لا إيمان له. بل إن بعض صياغات الدعوة إلى العمل في القرآن الكريم إنما تتم بالقول مثل ‏(قُلْ? ?يَا? ?قَوْمِ? ?اعْمَلُوا? ?عَلَى? ?مَكَانَتِكُمْ? ?إِنِّي? ?عَامِل?) وكذلك (وَقُلِ? ?اعْمَلُوا? ?فَسَيَرَى? ?اللَّهُ? ?عَمَلَكُمْ? ?وَرَسُولُهُ? ?وَالْمُؤْمِنُونَ). ويمكن تقريب المسافة بين الطرفين وتحييد النقيضين عن طريق التوسط وهو أن يصبح العمل هو القول. فالعمل قول مرئي كما أن القول عمل مسموع. والقول المرئي أفضل من العمل المسموع. بالعمل يتم التمايز ‏(وَلَنَا? ?أَعْمَالُنَا? ?وَلَكُمْ? ?أَعْمَالُكُمْ)، وبالقول? ?يحدث? ?التشابه.? بالعمل? ?يقع? ?التفرد، ?وبالقول? ?يتكرر? ?الأفراد.