في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون يؤكد للرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، نهاية الأسبوع الماضي، أنه يتعين تغيير قوانين الاتحاد الأوروبي إذا أريد لبريطانيا البقاء عضواً فيه، كان الأوكرانيون يخوضون معركتهم الخاصة في الشوارع ضد الحكومة لفرض إرادتهم الجماعية بالانضمام إلى أوروبا الغربية من خلال التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي المعروضة عليهم، وهي المطالب التي عطلت الحياة السياسية وتحولت إلى مواجهات عنيفة تكاد تعصف بالبلاد. وليس غريباً أن تسعى أوكرانيا إلى التقارب مع الغرب، ذلك أنه بالنسبة لبلدان المعسكر الشرقي السابق التي ظلت لعقود طويلة تعيش تحت الهيمنة السوفييتية يمثل الاتحاد الأوروبي فردوساً سياسياً، كما يجسد حلماً قديماً بالانعتاق ظل ملازماً لتلك الدول منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه نهائياً على يد بورس يلتسين في عام 1991. ففي تلك الفترة رأت أوكرانيا المستقلة النور وتحررت من السيطرة السياسية لجارتها الأقوى، روسيا، على رغم استمرار الروابط بينهما على أكثر من صعيد. واليوم تعود مسألة انضمام دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى الغرب لتتصدر المشهد، ولاسيما أن أوكرانيا تمثل حلقة مهمة في مشروع الرئيس فلاديمير بوتين الرامي إلى تشكيل تحالف أوراسي تجسده معاهدة جمركية تسهل التجارة والتبادل الاقتصادي على أن تشمل لاحقاً القضايا الأمنية. فكان أن وقع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش على اتفاقية مع روسيا، مستفزاً بذلك الرأي العام الأوكراني الذي يفضل جزء كبير منه التقارب مع الغرب والقبول بالعرض المقدم من قبل الاتحاد الأوروبي. والحقيقة أن الإشكال الأوكراني جاء ليسلط الضوء على عجز الاتحاد الأوروبي عن بلورة سياسة متماسكة ومنسجمة تجاه البلدان غير المنتمية للاتحاد، وهو دليل آخر على الفشل المزمن للدول الأعضاء في التوافق على ما يشكل «أوروبا» وتعريفها الدقيق. ففيما عدا الحدود الجغرافية المعروفة نسبياً لأوروبا التي تنتهي على الحدود الشرقية الجنوبية بالبحر الأسود وتركيا، ومن ناحية الشمال الشرقي بجبال الأورال وروسيا، حيث تبدأ أوراسيا، يبقى البعد السياسي والثقافي غائباً. ولعل ذلك هو ما يفسر على سبيل المثال المحاولات الفاشلة حتى الآن لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، على رغم إلحاحها، مع تلاشي احتمال انضمامها يوماً ما. بل إن بعض المسؤولين الروس أطلقوا فكرة انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي وإن كان الأمر لم يؤخذ أبداً على محمل الجد سواء من قبل روسيا نفسها، أو الأوروبيين. وتبقى أوروبا في الأساس تكتلاً اقتصادياً ومنطقة للتجارة الحرة، بالإضافة إلى كونها سوقاً مشتركة يتم فيها تبادل السلع والبضائع، مع بعض الخدمات. وهذا الجانب الاقتصادي سعت أوروبا إلى توسيعه خارج أعضائها في إطار اتفاقية التجارة الحرة الأوروبية التي تضم دولاً ليست أعضاء في الاتحاد مثل إسلندا والنرويج. والمفارقة أن دولة مثل بريطانيا، تعد عضواً تقليدياً، قد تكتفي في يوم ليس ببعيد بالتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي وعد به كاميرون الناخبين قبل انتهاء ولايته في 2015. ولكن ماذا عن الهوية السياسية لأوروبا؟ فالاتحاد عبارة عن مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات التي تنظم اختصاصات هيئاته وعلاقتها بالسيادة الوطنية للدول الأعضاء، ومن تلك الهيئات البرلمان الأوروبي، ومجلس تنفيذي مشترك، بالإضافة إلى جهاز بيروقراطي يسمى المفوضية الأوروبية ويشرف عليه زعماء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ثم هناك المفوضون الأوروبيون المكلفون بالشؤون الخارجية والدفاع المشترك. ولكن ولا تملك واحدة من تلك المؤسسات ما يكفي من الصلاحيات لتجاوز السيادة الوطنية للدول، وهو ما يفسر غياب «أوروبا» ككيان موحد قادر على التعامل مع القضايا الخارجية وشؤون السياسة الدولية، حيث تعتمد السياسة الخارجية على التوافق والتشاور وتقديم التنازلات المشتركة، ما يعني أن أوروبا في مرحلة الاتحاد لم تطور أبداً سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة، كما أن هذه الأخيرة كانت دائماً، على حد قول الدبلوماسي الأميركي الراحل، ريتشارد هولبروك، هي نفسها أوروبا، إن لم تكن القوة الأوروبية الأولى! وإن كان هذا الأمر مرشحاً للتغير في المستقل المنظور مع الحديث الرائج عن الانسحاب الأميركي من شؤون العالم، ولكن تلك قضية أخرى. ولعل من الأدلة الساطعة على ضعف الاتحاد الأوروبي وفشله في التحول إلى قوة سياسية محاولات انضمام تركيا الذي في حال حصوله ستصبح هي العضو الأكبر من حيث عدد السكان، وستحظى نتيجة لذلك بالعدد الأكبر من النواب في البرلمان الأوروبي الذين سيكونون على الأرجح مسلمين، ناهيك عن تاريخها العسكري القريب وديمقراطيتها الحالية غير المكتملة ومشاكلها السياسية الراهنة التي لاشك أنها ستشل الاتحاد الأوروبي. والأمر نفسه ينطبق على محاولات الاتحاد الأوروبي ضم أوكرانيا التي تربطها علاقة أوثق بدول وسط أوروبا مثل بولندا وليثوانيا، وأيضاً بروسيا، لكن أوروبا طلبت من الأوكرانيين القطع مع تاريخهم المشترك مع الروس وتداخلهم الديني مع الكنيسة الأرثوذكسية والجذور القديمة للحضارة الروسية التي انطلقت من أرضهم مقابل الانضمام للاتحاد الأوروبي، وليس غريباً أن تسبب المحاولات الأوروبية اضطرابات سواء في أوكرانيا، أو حتى في روسيا، ومع أن أوكرانيا قد تتحول مستقبلا إلى جسر ثقافي يصل غرب أوروبا بشرقها، إلا أن التعجيل بتعبئتها وقبل ذلك التسرع الأميركي باستمالتها إلى حلف شمال الأطلسي ما كان ليقود إلا إلى الصراع، والغريب فعلا أنه لا أحد في بروكسل، أو واشنطن تنبه إلى هذا الأمر. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «ميديا تريبيون سيرفس»