على تخوم الخلاف المتواصل حول أمر الدين والدولة في الإسلام، يناقش المفكر وعالم الدين المسلم (الشيعي) اللبناني هاني فحص، في كتابه «الإسلام والديمقراطية وتنميط الدولة... أفكار ورغبات صعبة»، والذي نعرضه هنا، موقفين أحدهما يرى قطيعة بين الدولة والدين، وثانيهما يزعم أن الدولة في الإسلام دينية أو لا تكون. وفي هذا السياق يدافع فحص عن مبدأ أساسي في مقاربته أمر الإسلام والديمقراطية، يتمثل في تلازُم الديمقراطية والحرّية، ومن ثم انتفاء أي تعارُض بين الإلهي والإنساني؛ مما يفضي للقول إن الديمقراطية هي «المناخ الملائم للمحبّة والعدل». يبدأ فحص حديثه عن الإسلام والديمقراطية بالتساؤل حول رؤية الإسلام للدولة: أي هي ضرورة في نظره أم لا؟ ليجيب بالقول إن الدين الإسلامي لم يفرض نموذجاً محدداً للدولة، بل إن نظام الحياة عموماً في الإسلام يقوم على التفريق الدقيق بين الشأن الديني التعبّدي والشأن السياسي الدّنيوي، دون أن يعني ذلك قطيعة أو تعارضاً. فثمة ميثاق أخلاقي جامع يجعل سلوك الإنسان المسلم منضبطاً بتوجهات القيم الإسلامية الإنسانية العليا، بما فيها العدالة والتّسامح وحق الاختلاف. ولأجل ذلك لم يعرف تاريخ الأمّة الإسلامية انحصار أشكال تنظيم الدولة، حيث ظهرت أشكال عديدة تفاوتت في مدى اقترابها أو ابتعادها من النسق القيمي الإسلامي نفسه. ومع ذلك فقد أكّد الإسلام على ضرورة قيام الدولة باعتبارها شرطاً لا غنى عنه للاجتماع البشري، لكنه أوجد فقه المقاصد لتحقيق التوازن بينها وبين المجتمع حتى لا يستقوي أي منهما على الآخر. وضمن نظام الأفكار الإسلامي المقاصدي العام تقع نظرياً الديمقراطية، كما يلاحظ المؤلف، لانسجامها مع قيمه وغائياته. فالله سبحانه وتعالى هو مقصد المقاصد (الشرط الإلهي)، والحرية هي الشرط الإنساني، والشرطان متلازمان؛ فمن دون غائية تصبح الحرية فوضى، ومن دون حرّية تصبح الغائية إعاقة وتتعطّل الحياة. وهكذا يظل ادّعاء التعارض بين الإسلام والديمقراطية مزعماً لا يقوم على حجج واضحة ولا على أدلة بيّنة. إذ يلتقي الدين والديمقراطية في طلب تعزيز الجانب الإنساني بما هو خلاص وتحرير للإنسان من ربقة التعصّب والتحزّب، وتوجيهه إلى قيم المحبّة والانسجام في ظل احترام المخالف والقبول به في تعايُش وتآنُس. ومع تأكيده على العلاقة بين الديمقراطية والمقاصدية الإسلامية، فإن المؤلف يطرح تمييزاً دقيقاً بين الشورى والديمقراطية، لسحب البساط من الدّاعين إلى المطابقة بينهما سعياً لاستعمال الآليات الديمقراطية مرّة واحدة ثم البقاء في الحكم إلى الأبد. إذ لم تُطبّق الشورى خلال التاريخ الإسلامي، وفقاً للمؤلف، سوى مرتين: مرة في معركة بدر، حيث كانت حسماً للجدل بين الموقع التوجيهي للرسول صلى الله عليه وسلم وبين موجبات الخبرة. ومرة أخرى عندما ترك الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب أمر خلافته شورى بين ستّة من الصحابة ممن تبقوا على قيد الحياة من العشرة المبشّرين بالجنة. ثمّ إنّ الشورى عبارة عن تدبير مناسب للمعطيات المتوافرة، لكن فعاليتها تتوقف إذا ما بلغت التعقيدات مستوى يفوق استيعابها النظري، أي أنها قد تصبح معالجة نظرية وتدبيرية غير كافية لاستيعاب المستجد ومعالجته، بمعنى أنها تدبير تاريخي غير عابر للزمان والمكان. وعوداً على بدء، فإنّ التمييز بين الدين والسياسة أمرٌ ضروري لكيلا يتمّ اتخاذ الديمقراطية ذريعة لممارسة الاستبداد باسم الدين، على النحو الذي أفضت إليه تجربة الثورة الإيرانية المعقّدة، وهو استبداد تجلى من خلال العنف المنظّم، أي عنف السلطة الذي تتمّ ممارسته من أجل ديمقراطية شكلية. هذا إلى جانب تجربة أخرى شبيهة يعرضها المؤلف، وهي محاولة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر التوسلَ بالديمقراطية لارتقاء سدة الحكم، كطريقة لتسويق المشروع الخفي عبر وسائط لفرض نموذج ديمقراطي شكلي، لكنه استبدادي باسم الدين وباسم الجماعة. لذلك كانت «الأخْوَنَة» أسلوباً آخر في تجيير الآلة الديمقراطية لمصلحة الجماعة. ومن خلال تينك التجربتين تتجلى أهمية الشرط الثقافي لإنجاح أي تحول ديمقراطي. وكما يلاحظ «فحص»، فكما أنّ للاستبداد ثقافة تُغذّيه وتنمّيه، فإن للديمقراطية ثقافة تُستمَدُّ منها وتمدّها، تقوم على الاتصال والحوار والشـراكة والتبادل. فهذه الثقافة المتوازنة هي العاصم من تجدّد أسباب الحرب الكامنة في تباينات المجتمع، والتي قد تستغلها المعرفة المؤدلجة أو يذكيها انعدام المعرفة أصلاً. من هنا يختم المؤلف بقوله حول الدين والدنيا؛ إنهما «بالتوحيد القسري والتعسفي ينكسران، وبالتعدد النازع إلى التكامل، يتقاربان ويتقدمان؛ فقد خلقنا لنحيا». محمد ولد المنى الكتاب: الإسلام والديمقراطية وتنميط الدولة... أفكار ورغبات المؤلف: هاني فحص الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2013