صدر مؤخراً قانون الخدمة الإلزامية في القوات المسلحة بدولة الإمارات العربية المتحدة؛ وجاءت التعليقات- تصريحات ومقالات- على أنه سيرفد جيش الدَّولة الوطني بالشَّباب، المؤهل لتحمل المسؤولية، وتقوية آصرة المواطنة، وسينفذ على الذُّكور إجبارياً وللإناث اختيارياً. ليس هذا شاهد مقالنا، فليس ما عندي إضافته أكثر مما قيل عن موجبات هذا القانون، الذي وافق عليه مجلس الوزراء مؤخراً. إنما قلت ذَكرني أمراً بما يخص العِراق، وقانون الخدمة الإلزامي العِريق فيه، الذي أُلغي بحل الجيش العِراقي، وكان، بعد ما حدث، يُعد أول الخطايا. كانت الخدمة الإلزامية في الجيش العراقي غير مرغوب فيها، فتنفيذ القانون لم يضع بنظر الاعتبار آدمية الجندي المكلف، وصحيح أنه يدخل الجيش وهو في التَّاسعة عشرة، أي في فورة الفتوة، والمطلوب تدريبه وإعداده جسدياً وروحياً لتحمل هول جبهات القتال، لكن بهذه الذَّريعة كانت الخدمة تشكل عَقبة أمام طموح الشَّباب، وعلى الجندي الطَّاعة العمياء، ليس في شأن قتالي، إنما تحولت خدمة العَلم إلى ما يشبه عمل السِّخرة. مع ذلك، مثلما كان حلّ الجيش خطيئة لا تغتفر، تحسب على الحاكم الأميركي بريمر (2003-2004) وعلى مَن حَسنَ له مِن معارضة الأمس، فإلغاء الخدمة الإلزامية خطيئة أيضاً، كان أول فوائدها تلاقي جهات العِراق الأربع، مِن مختلف الأعراق والأديان والمذاهب، فالثياب العسكرية لا تفرق بين جندي وآخر، وقد عشنا تلك الأحوال، وما كان يطرأ على البال سواء كنا جنوداً عراقيين. على مستوى آخر، كان الجيش مدرسة، وعلى وجه الخصوص بعد فرض خدمة العلم على طلبة الثانويات والجامعات والمعاهد منذ 1969، بغض النَّظر مِن هدف السلطة آنذاك منه، فعقب الدراسة يأتي دور التدريب البدني والروحي، بمعنى أن الخدمة الإلزامية قربت بين أصقاع الوطن، بل وأسهمت في إخماد النَّعرات الملتهبة الآن، وأن الخريجين أسهموا في رفع مستوى الجيش الثقافي والمعرفي. في كلِّ عام تُسحب وجبة مِن المواليد، أو بعد انتهاء الدراسة بالنِّسبة للخريجين مِن الجامعات والمعاهد. هناك يتشكل عراق مصغر، تُقام الصَّداقات والصِّلات، ولا يعرف المسيحي والمندائي و«الأيزيدي» إلا في عطلاتهم الدِّينية الخاصة، ولا يميز السُّنّي مِن الشِّيعي إلا عندما يقف المصلون، هذا ضام يديه وذاك مرسلهما. أول ما عرف العِراق قانون الخدمة الإلزامية في خمسينيات القرن التَّاسع عشر؛ لكن لم يُطبق حينها، حتى جاء مدحت باشا (قتل 1883) فطبقه عن طريق القرعة بولاية بغداد 1869، ثم عممها على الألوية العشرة، التي كانت يتألف منها العِراق إدارياً، ومع ذلك واجه صعوبة في التنفيذ، لكنه تغلب عليها (النَّجار، الإدارة العثمانية في ولاية بغداد). حينها كان يؤخذ بدل نقدي من غير المسلمين مقابل عدم خدمتهم في الجيش، وبعد 1909 صاروا يخدمون أسوة بالمسلمين. أُعفي من الخدمة أصحاب العاهات وذوو العائلات، وفلاحو أراضي السَّلطان، ومشايخ الطُّرق الصُّوفية، وأبناء البدو الرُّحل، والأشراف الگيلانيون، وطلبة العلوم الدينية (المصدر نفسه). حينها كان العِراقيون يكرهون التَّجنيد، أولاً لأن الدَّولة أجنبية، وثانياً الخدمة طويلة، وبلا راتب مجزٍ ولو بالحدود الدُّنيا. فكثر الهروب مِن الخدمة، ومازال العراقيون يسمونه بـ«الفرارية». بعد تشكيل الدَّولة العراقية الحديثة عام 1921، صار التفكير، من 1927، بإصدار قانون للخدمة الإلزامية، لكن المعارضة كانت شديدة مِن العشائر، ولم يصدر القانون إلا في فبراير 1934 باسم قانون الدفاع الوطني (الدَّليل العراقي الرَّسمي لسَّنة 1936). ونفذ في يونيو 1935. لكن خلاف الواقع ورد في «دليل الجمهورية العراقية لسنة 1960»: «استبشر كافة أبناء الشَّعب بصدور القانون المذكور، وتسارعوا للالتحاق بخدمة العَلم لخدمة الوطن المقدس». أقول: يمكن أن يكون هذا صحيحاً لو حاولت قيادة الجيش أن تُنسي العِراقيين مساوئ الخدمة الإلزامية في العهد العثماني، بما يقترن بالاعتقال والنَّفي. ظلت الخدمة الإلزامية كقانون منفرد، حتى ضُمن في الدّستور العراقي المؤقت لسنة 1964، وفق المادة 36 ونصها: «الدِّفاع عن الوطن واجب مقدس، وأداء خدمة العَلم شرف للعراقيين والتَّجنيد إجباري وفق القانون». تكررت العبارة نفسها في الدُّستور المؤقت لسنة 1968 وفق المادة (38). أما في الدُّستور الدَّائم لسنة 2005 حسب المادة التَّاسعة: «تنظيم خدمة العَلم بقانون». نجدها مادة محيرة، فهي لا تطوع باختيار ولا تكليف بإجبار، منزلة بين منزلتين، كبقية العديد مِن المواد، حمالات أوجه. ظل الموقف مِن الخدمة العسكرية، منذ تاريخ وجودها، سلبياً مع أنه تحت عنوان «خدمة العَلم»، مثلما صار الاسم في ما بعد. لهذا عندما قررت الحكومة بعد (تموز 1968) سَوَق (هكذا كان يسمى الدُّخول في الخدمة الإلزامية) طلبة العلوم الدَّينية أرسل المرجع الدِّيني السَّيد محسن الحكيم (ت 1970) نجله محمد مهدي الحكيم (اغتيل 1988) لمقابلة رئيس الجمهورية آنذاك، بعد رفضه مقابلة صدام حسين (اعدم 2006) بعذر أنه كان يمثل الحزب لا الدَّولة، قبل أن يصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثَّورة. قال الحكيم للرئيس أحمد حسن البكر (ت 1982)، بعد أن استقبله الأخير بعبارة «وينك يا رجل»: «إن القانون يقول إن كلَّ فردٍ يتخلف عن الخدمة العسكرية تضاعف له خدمته، فهل يمكن إصدار قانون أن كلَّ وزير لا يباشر في وزارته لمدة سوف نعاقبه بأن نجعل وزارته للوزارة سنتين بدلاً مِن سنة واحدة، هل يحدث هذا أم أنه يُطرد؟! إن كانت الخدمة العسكرية شرفاً فيجب أن تقولوا: إن كلَّ مَن لا يلتحق بهذا الشَّرف فهو لا يستحقه، ويجب أن يُطرد، وهذا ما صنعه القرآن حين تخلف جماعة عن الجهاد». قال الحكيم: «فأخرج (الرَّئيس) قلماً، وقال: «والله أن هذه ملاحظة جيدة»(الحكيم، من مذكراته). على أية حال، قرأنا أن مداولات تجري ببغداد للعودة إلى الخدمة الإلزامية، ونراه الطَّريق الصَّحيح، لتخليص الجيش من الفئوية، وما تأسس به مِن ميليشيات بما عُرف بقانون «الدَّمج»، وما مُنح مِن رتب بلا وجه حق، فقد انتقلت عاهات المعارضة إلى الجيش، وتحول إلى ولاءات طائفية. لكن نأمل أن الجيش العراقي مِن خلال الخدمة الإلزامية، بعد تنقيتها مِن المساوئ، سيسهم في إعادة إعمار اللحمة الوطنية، واستيعاب أفواج العاطلين، مما يسهم بالتقليل مِن الجريمة في حالٍ مِن الأحوال، إضافة إلى اكتساب مهارات مهنية، تؤهل للعمل بعد إنهاء الخدمة.