قامت دعاية جماعة «الإخوان» في مصر ومن تحالف معها أو أيدها وناصرها على مقولة عريضة حاولت بها إقناع العالم الخارجي، وهي أن الشعب المصري في غالبيته غير مؤيد لما حصل من انقلاب عسكري على سلطة «الإخوان»، وعلى عزل الرئيس الشرعي المنتخب، وأن ما يحصل في مصر من تظاهرات واعتصامات واحتجاجات تتخللها أحداث عنف دامية، ما هي إلى تجسيد لرفض الشعب المصري ومقاومته للحكم العسكري، حفاظاً على ثورة 25 يناير وأهدافها، وهذه المقاومة الشعبية نوع من الجهاد المشروع، بل الواجب شرعاً ضد الانقلابيين المغتصبين للسلطة الشرعية، ومن اطلع على رسالة الشيماء بنت الرئيس المصري السابق محمد مرسي إلى أبيها المحبوس، يتأكد من ذلك، إذ تنقل الابنة عن أبيها ليلة الانقلاب عليه، قوله للأسرة: إنه على ثقة أن الشعب المصري سيكمل ثورته المجيدة ولن يسمح بالعودة إلى الوراء ولن يفرط في حريته أو كرامته ولو على حساب دمه، وأنه - رأي والدها - تمنى أن يكون في مقدمة المضحين في سبيلها وأن يتقبل الله دمه (شهيداً). هذا هو جوهر الدعاية «الإخوانية» للعالم كله، إن الشعب المصري مع «الإخوان» وأنه رافض كل ما حصل في الساحة المصرية منذ الانقلاب على الشرعية الممثلة بالرئيس السابق، والعجيب أنه تم الترويج بقوة لهذه الدعاية على الساحتين الغربية والأميركية، ورددتها صحف غربية وأميركية بل كبريات صحفهما وعلى أيدي كُتّاب غربيين بارزين على الضد من السياسات الرسمية لدولهم، كان منطلق هؤلاء الكُتّاب باستمرار، أن انقلاباً وقع في 30 يونيو على رئيس منتخب، وأن ما يجري من عمليات عنف وتخريب وتفجير وقطع السبيل وحرق منشآت وترويع الجمهور، ما هو إلا نوع من المقاومة للحكم العسكري، وأن «الإخوان» منها براء لأنهم جماعة تنادي بالمقاومة السلمية، وإذا كان ثمة إرهاب فهذا ينسب إلى جماعة أنصار بيت المقدس الذين يمارسون هذا العنف تعاطفاً مع الإخوان المظلومين. انظر على سبيل المثال فقط ما كتبه كل من «دانيال بنجامين» منسق شؤون مكافحة الإرهاب في الخارجية الأميركية سابقاً و«ستيفن سيمون» مدير مركز أبحاث الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي سابقاً في مقالة بعنوان «أخطار حرب في مصر»، كتبا في «نيويورك تايمز» يقولان: «يشن الجيش المصري حرباً على الإخوان المسلمين، ويقف الأوروبيون والأميركيون موقف المتفرج من هذه الحرب.. ولاشك أن قمع الإسلاميين في مصر كان مرحلة لا يستخف بأهميتها في نشأة حركة الجهاد المعاصرة.... ويصل الكاتبان في النهاية إلى مطالبة بلدهما بحث حكام القاهرة على العدول عن هذا النهج وإقناعهم بالانفتاح لتلبية حاجات البلاد الاقتصادية، ولكن هناك عقبة تحول دون ذلك، هي الدعم الخليجي لحكام مصر. أمثال هذه الكتابات المضللة في الصحف الغربية والأميركية كثيرة، والعقلية التي تحكم هؤلاء الكُتّاب والمحللين هي «عقلية الـBBC» الإعلامية، وهي «حالة ذهنية»، كما يصفها الكاتب الصحفي عادل درويش زرعت في أدمغة الصحافيين مغالطات تاريخية ومعلومات خاطئة عن مصر وتاريخ الإخوان وتنظيمهم السري، وبقية الصحافة تبعث الـBBC كببغاء ضعيف النظر تردد المعلومات الخاطئة وخلقت بدورها «حالة ذهنية» في شارع الصحافة العالمية جعلها لا تتزحزح عن موقفها بالإصرار على تسمية ثورة 30 يونيو انقلاباً. ولا يقتصر هذا التضليل على الغربيين، بل عندنا كُتّاب عرب انساقوا وراء دعاية «الإخوان»، وأصبحوا يرددون مقولات «الإخوان» نفسها عما تقوم به الشرطة المصرية من قتل للمتظاهرين الإسلاميين السلميين، وعن مجيء (حكم العسكر) بسقوط حكم «الإخوان»، وكأنه لا خيار للشعب إلا حكم «الإخوان» أو حكم العسكر، مغالطة تنم عن خبث وتضليل. وهي في النهاية تخدم الدعاية «الإخوانية» في أن ما حصل انقلاب عسكري، الخطيئة الكبرى لهذه التحليلات هي عدم اعترافها بالخروج الجماهيري العظيم في 30 يونيو كأكبر مظاهرة في تاريخ البشرية، رفضاً لمشروع الإخوان وحكمهم ودفاعاً عن (هوية مصر). إذاً وقع «الإخوان» في مطب تاريخي قاتل عندما حاولوا تغيير هوية مصر، ومشكلة هؤلاء الكُتّاب من العرب أنهم حتى الآن لم يستوعبوا ما حصل ولم يدركوا بعد أن «الإخوان» لو نجحوا في مشروعهم الفكري السياسي القائم على أسلمة مصر وتغيير هويتها التاريخية، فإن الوجود العربي كله كان معرضاً للتزعزع، واستشهد هنا بأصدق تعبير لخص للهبة الجماهيرية الكبرى في 30 يونيو هو تصريح صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة عندما قال: «العرب كانوا سيُزالون من الوجود لولا وقفة الشباب المصري في 30 يونيو». بعض من هؤلاء المغالطين يتهمون الشعب المصري والنظام بأنهم لا يسعون إلى «المصالحة» ولا يريدون «نزع فتيل التوترات العميقة في البنى الغورية للوعي المصري المعبأ بروحية الثأر والانقسام وإلقاء المخالفين في البحر». وأتساءل بحق من الذي رفض المصالحة وأصر على (كسر الانقلاب) وتمسك بإسقاط «دستور الدم» واستعادة «الشرعية» وإجلاس «مرسي» على «الكرسي». أليس هو الطرف الذي يعيش «حالة إنكار» لم يفض منها حتى الآن؟ صرح د. أحمد كمال أبوالمجد وهو أحد كبار الشخصيات التي حاولت الصلح بين «الإخوان» والدولة بأن السلطة قبلت المصالحة فتراجع «الإخوان»، و«الإخوان» لا يريدون أن يقتنعوا حتى الآن بأن الشعب لفظهم ،وإلا فما دلالات هذا الزحف الشعبي العظيم على استفتاء الدستور الذي سماه «الإخوان» (استفتاء الدم). بإجماع المراقبين العرب والأجانب كافة قد تم إنجاز هذا الاستحقاق التاريخي على أفضل وجه وبإقبال جماهيري فاق كل الاستفتاءات السابقة، وذلك برغم المخاطر الأمنية والتهديدات الإرهابية كافة تحدى المصريون الإرهاب ونزلوا بكثافة بالغة في طوابير منذ الفجر المبكر في خروج نوعي وكمي لا سابق له، خرجوا يحتفلون بالدستور، ينشدون الأغاني الوطنية فرحين بهذا الإنجاز... ما معنى كل هذا؟ المعاني كثيرة والدلالات عديدة أفاض فيها كُتّاب كُثر، لكن أعظم الدلالات وأبقاها: أن الشعب المصري قال كلمته وطوى صفحة «الإخوان» وأنه وهو الأهم رفض رفضاً قاطعاً «دولة الإخوان الدينية» إلى الأبد، وأنه - أيضاً - رفض المصالحة مع جماعة تؤمن بالعنف سبيلاً لتحقيق أهدافها السياسية، إنه العودة إلى حضن الوطن، إلى الثقافة المصرية ذات الطابع الديني المتسامح، إلى الأرض الخضراء التي تعطي الثمار وتحتضن النيل بوجهه العذب المتدفق.. تلك الثقافة المصرية الجميلة التي كادت أن تختفي أمام ثقافة خشنة غليظة لا تحب البهجة والبسمة وتعاند الفن والإبداع كما يقول د. أحمد زايد عالم الاجتماع المصري قد يكون للمشككين المضللين قبل الاستفتاء ما يتعللون به، فما عذرهم وما تبريرهم اليوم وقد حسم الأمر؟