الفكر ليس قطاعاً ثابتاً أو مقطعاً طولياً أو عرضياً في حياتنا بل هو لحظة من لحظات التطور في تاريخنا ووجودنا. وقد يكون الخطر الأساسي في فكرنا القومي هو ثباته وعدم ارتباطه بحركة التاريخ الماضية أو الحاضرة أو المستقبلية ارتباطاً عضوياً صحيحاً. وإذا ما أدركنا حركة التاريخ فإننا نتعامل معها بعقلية الثبات فننزع إلى الماضي ونركن إليه أو نرنو نحو المستقبل ونعيش فيه أو نحرص على الحاضر ونتشبث به. وليس حكماً قاسياً أن نقول إن الشعور التاريخي قد غاب في فكرنا القومي. ويكون السؤال: لماذا غاب البعد التاريخي في فكرنا القومي؟ سؤالاً مطروحاً على وجداننا سواء في تراثنا القديم أو في حياتنا المعاصرة. ولما كان فكرنا القومي مرتبطاً بالماضي وبالمستقبل وبالحاضر فإن تحديد علاقة الفكر بالتاريخ تتأتى بتحديد علاقته بهذه الأبعاد الثلاثة. 1- الرجوع إلى الماضي كهدف لا كوسيلة: في علاقة الفكر بالماضي يغلب علينا الإغراق فيه، والتشدق بمفاخره، والاعتزاز بآثاره كنوع من التعويض عن النقص لمآسينا الحاضرة، وتخلفنا الحالي، وانهيارنا الذي بدأ منذ ألف عام تقريباً بعد الهجوم على العلوم العقلية. نتصور علاقتنا بالماضي على أننا عشنا عصرنا الذهبي ثم بدأ الانهيار تدريجياً حتى انهيارنا التام الآن الذي ما زال مستمراً كلما بعدنا عن العصر الذهبي، وكلما أوغلنا في الزمان. فالتاريخ لا يحتوي إلا على الشرور والآثام. وقانون التاريخ هو قانون الانهيار. ?وهو? ?تصور? ?يقوم? ?على? ?احتقار? ?الذات،? ?وعلى? ?يأس? ?من? ?الحاضر،? ?وعلى? ?جهل? ?بقدرات? ?الجماعة،? ?وعلى? ?العجز? ?التام،? ?وعلى? ?اليأس? ?المطلق.? ?ويستمر? ?الانهيار? ?حتى? ?النهاية? ?حتى? ?يبلغ? ?الانحطاط? ?مداه،? ?فتكون? ?نهاية? ?التاريخ.? ? وإذا كان حالنا أفضل، وكنا أميل إلى إحداث نوع من التقدم، ونحاول أن ننقل أنفسنا من مرحلة الانهيار إلى مرحلة الرفع فإننا نتصور التاريخ على أنه تراجع إلى الوراء، وبالتالي يصبح مستقبلنا في الماضي، ونتقدم إلى الوراء، ونعكس مسار الزمن، ونقلب حركة التاريخ، فنتقدم وظهورنا إلى الأمام، ونسير ووجوهنا إلى الخلف. وهي ظاهرة مرضية لأننا نسيء فهم الماضي ولا ندرك وظيفته. يستطيع الماضي أن يكون نموذجاً للتحديث، وليس هدفاً في ذاته، عن طريق اختيار أمثلة ونماذج لحل إشكالات الحاضر مثل الفقر والبؤس. فالبحث عن نموذج في الماضي ليس ارتكازاً إليه أو تعويضاً نفسياً عن مآسي العصر، بل هو بحث عن حلول مُثلى لمشاكل العصر تتفق وأفهام الجماهير وتؤثر عليها كدوافع للسلوك، وتسير وراءها كنموذج حي للقيادة والمثل. وفي أحسن الأحوال نتصور التاريخ تصوراً دائرياً. فقد بدأ التاريخ بالتقدم، وقامت الحضارة الإسلامية، وبلغت ذروتها ثم بدأ التاريخ ثانية بالانهيار. وهو التصور الحيوي للتاريخ الذي يعطي لكل حضارة دورة، ويكون التاريخ هو مجموع الدورات. وهو تصور ابن خلدون، من البداوة إلى الحضارة ثم من الحضارة إلى الانهيار. وقد نتصور التاريخ أخيراً على أنه انتقال من الوحدة إلى التشتت، ومن الجماعة إلى الفرقة، وبالتالي نلغي حركة التاريخ، ونسقط الاجتهاد من الحساب. لقد أدى هذا التصور للتاريخ -الرجوع إلى الماضي- إلى العزلة في الماضي والنرجسية الحضارية والانقطاع عن الحاضر وغياب المستقبل. وهو ما عُرف في فكرنا باسم التصور الماضوي للتاريخ. 2- السبق نحو المستقبل دون الإعداد له: ثم يحدث رد فعل في فكرنا القومي على التصور الماضوي للتاريخ، فنترك الماضي إلى نقيضه وهو المستقبل ونعيش فيه ونرنو إليه، ونستبق الأحداث، فالسابقون السابقون، ونقطع الصلة كلية بيننا وبين الماضي حتى نطلق أنفسنا، ونحرر عقولنا من أغلاله. فأصبحنا طوباويين، نعيش في مدن فاضلة، مدن الاشتراكية والمجتمعات اللاطبقية التي يتحرر فيها الإنسان من كل مظاهر الاستغلال. ولما كان الأمل في المستقبل والثقة فيه دافعاً للحركة فقد تنمّرت بعض النظم أحياناً لكل محاولة للتحقيق الفعلي لهذا التصور للتاريخ، فاضطهدت أنصاره أو حاولت استيعابهم، وشراء ضمائرهم، مرة بالترهيب وأخرى بالترغيب وخاصة أن هذا الحل الطوباوي لم يكن يتعدى دوائر المثقفين التي كان يسهل إغراؤها ثم شراؤها أو ضربها. فإذا كانت الجماهير في التصور الماضوي للتاريخ ترجع بوجدانها إلى الماضي تعويضاً عن المآسي الحاضرة فإن الصفوة في التصور المستقبلي للتاريخ ترنو بوجدانها إلى المستقبل أملاً في تحريك الحاضر وتجاوز مآسيه. فإذا ما حاول أحد تحقيق هذا الحلم الطوباوي فإنه يبدأ بنشره في أجهزة الإعلام لتقوية الوعي الاجتماعي بين الطبقات ولإحداث تنوير على النمط الغربي أي إحداث ثورة في الأذهان، أو الانتفال إلى العمل السري وتكوين خلايا حزبية تعمل على تغيير الوضع القائم، وهو التحديث على النمط الآسيوي. ويغفل هذا التصور إذن التاريخ باعتباره مراحل انتقالية. ويعيش في مرحلة لاحقة، سابقاً الزمن، وهو يظن أنه يعمل في مرحلة حاضرة، وهو في الحقيقة خارجها. كما يغفل دور الأجيال، وتحديد طبيعة المرحلة التاريخية التي تعيشها المجتمعات النامية، وهو الانتقال من التخلف إلى التقدم، ومن الأسطورة إلى الواقع، ومن الخرافة إلى العلم، ومن الإشراق إلى العقل. ولا غرو أن يكون هذا التصور هو تصور الصفوة المثقفة التي تنحو بوجدانها نحو عالم أفضل، تصور المخلصين ودعاة التغيير الاجتماعي. 3- تثبيت الحاضر لا تحريكه: وقد ينشأ رد فعل ثالث على التصور الماضوي للتاريخ وعلى التصور المستقبلي له وذلك بالتوجه إلى الحاضر والانكباب عليه ومحاولة تنظيره تنظيراً مباشراً والتعبير عن مطالبه، والإحساس بمقتضياته حتى ولو كان في صورة هوجاء عشوائية، انتقائية، جزئية، عملية، تجريبية. فإذا كانت مطالب العصر الرئيسية قبل عقود هي الحرية والاشتراكية والوحدة فإن هذه المطالب تكون مقطوعة الصلة بالماضي إلا في الجوانب المماثلة لمتطلبات الحاضر كنوع من التقريظ والفخر أو للتعمية على نقائص العصر أو لعزل الاتجاهات الجذرية فيه. كما تكون مقطوعة الصلة بالمستقبل إلا بقدر استعمال أنصاره لتحقيق مطالب العصر وتبرير القرارات. ولكن يظل الحاضر مقطوع الصلة بالماضي والمستقبل وكأن التاريخ كله هو الثورة العربية المعاصرة التي تجُبُّ ما قبلها وما بعدها، وكأن الحاضر ليس تراكماً للماضي ولحظة من لحظات تطور التاريخ نحو المستقبل، فالماضي هو مستقبل الحاضر، والحاضر هو ماضي المستقبل. إن الاقتصار على اللحظة الحاضرة إغفال لحركة التاريخ ولقوانين التطور كما أنه مقطوع الصلة بالنظرة المستقبلية. ولا عجب أن يصبح هذا التصور للتاريخ تصور الطبقة المتوسطة، والحاضر غاية المسعى، والمكسب الحالي الغنى الدائم. يظل هذا التصور هشاً فارغاً أمام الحاضر الذي يحركه الماضي ويدفعه نحو المستقبل فيثور الحاضر مطالباً بتصور آخر أكثر شمولاً وحسماً أو أمام نظرة تاريخية بعيدة المدى أعمق في التاريخ وأطول في العمر وأرسخ في الوجدان. ولما كان الإنسان المعاصر فكراً، فإن هذا التصور للحاضر مقطوع الصلة بالفكر إذ إنه يتهم التصورين الآخرين الماضوي والمستقبلي بالأيديولوجية أي المذهب المسبق يميناً أو يساراً، ولا تغني الرغبة في التعمير عن التصورات وعن البعد الأيديولوجي للإنسان. إن التعامل المباشر مع الحاضر لا يعني قصر النظر فالتاريخ يحرك الأحداث والحاضر ليس نقطة ثابتة ساكنة يمكن تغليفها وتوهم اتقاء شرها. الحاضر ليس إلا السطح الخارجي لتيار الزمان الجارف والشكل الظاهر لحركة التاريخ. وقد كانت الحركات السياسية الجذرية أولاً وفي بداياتها نظرات شاملة في التاريخ. وقد يرجع تعثر ثوراتنا العربية المعاصرة إلى غياب هذا التصور الشامل للتاريخ. إن المخاطر التي تهدد فكرنا القومى جزء من حركة التاريخ، وظواهر مصاحبة لمرحلة التحديث التي نمر بها، ولا يهم إن كانت مخاطر حقيقية في صلب فكرنا القومي أو ظواهر وقتية في فكرنا الإعلامي، ولكن الذي يهم هو وجودها كظواهر مؤثرة في حياتنا يعيها رجل الشارع كما يعيها المثقف الملتزم. إن هذه المخاطر لا نقضي عليها بقرار، ولا ندرؤها بين يوم وليلة، ولكن موقفنا الحضاري يكشف عنها، وتكون مواطن الحركة ومكمن التغيير، ومناطق المعالجة. وتكون مهمة مثقفينا الوطنيين الذين يهدفون إلى إقامة ثقافة وطنية، ومفكرينا السياسيين الذين يبحثون عن أيديولوجية عربية، هو التركيز على هذه المخاطر، والتنقيب عن الظواهر التي تكمن وراءها، وتحويلها من ظواهر مرضية إلى ظواهر صحية، فالتعرف على الداء ثم تشخيصه هي المقدمة الضرورية لسلامة فكرنا القومي.