بين مايحدث في العالم العربي وتحليل الكواكبي عن الاستبداد أكثر من قرن. والسؤال هل يمكن أن نضع مايحدث في خانة التغيير الفعلي وأن الشعوب استيقظت أم أنها ماضية مثل «سفينة التيتانيك» في رحلتها نحو القاع فلم تصل بعد؟ مع ذلك هناك من يرى أن ليس ثمة قاع لانحطاط الأمم كما أن ليس ثمة من سقف لارتفاعها. من المهم إذن تذكر قوانين الكواكبي في ظل مايحدث عندنا لنرى أين نحن مما يقول؟ بثلاث جمل اختصر عبد الرحمن الكواكبي الوصفة مثل قوانين الرياضيات في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» في مبحث السعي في رفع الاستبداد، ويتفق بهذا مع الفيلسوف (ايمانويل كانت): الأمة التي لاتشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لاتستحق الحرية. ويجب أن يتم التغيير سلمياً وبالتدريج، ويتفق بهذا مع قانون الأنبياء في التغيير الاجتماعي أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا مابأنفسهم، وليس بقتل الحكام أو الانقلابات العسكرية في الظلام أو الصراع المسلح. الاستبداد لايقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج. ولابد من تصور البديل. ويجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد، ويتفق بهذا مع «ديكارت» الذي يرى في كتابه «المقال على المنهج» أنه يجب عدم هدم البيوت القديمة مهما كانت سيئة؛ فلا يفعل هذا مهندس عاقل ويضع أصحابه تحت المطر والريح بل لابد من تهيئة البيت الجديد؛ فإذا انتقل إليه لم يرجع إلى القديم قط. ومن الملفت للنظر أن القوانين الثلاثة التي وضعها الكواكبي قبل قرن من الآن 1902 للتخلص من الاستبداد تفتح الوعي على طريقة جديدة في التفكير، بعد أن جرب العالم العربي وصفة الانقلابات فلم يزدد المرض إلا نكساً ووخامة، وتدهورت الأحوال من دون توقف منذ نصف قرن وبتسارع في علاقة جدلية موجعة بين المرض والاختلاط، وهو حالياً يجرب لوناً جديداً من التغيير في الصراع مع الأنظمة بالسلاح كما في النموذج السوري فوصل إلى حافة الكارثة. نحن نعلم أن المريض في العناية المشددة عندما يستمر في النزف لايقف عند نقل الدم ولكنه يصل إلى القصور الكلوي، والأمة العربية التي تسكن اليوم العناية المشددة التاريخية تحت إشراف أسوأ الأطباء وأقلهم خبرة وأضعفهم اختصاصاً نزفت بما فيه الكفاية، وهي الآن في حالة قصور اجتماعي وهذيان على صورة صراخ الجماهير الهستيري في تمجيد الأصنام. لقد كانت الأمور سيئة بما فيها الكفاية من الانفكاك عن صيروة التاريخ وأحداث القرن، ولكن التطور المهين خلال نصف قرن الفائت يجعلنا نتساءل إلى أين ستمضي الرحلة؟ وهل هناك ثمة قاع ترسو عليه سفينتنا الغارقة في عمق المحيط؟ وهل انتهينا من قدر الهبوط أم مازال أمامنا فصول أشد بؤساً؟ لا أحد يعلم؟ يؤرخ الفيلسوف عبد الرحمن البدوي في كتابه «سيرة حياتي» التطور المأساوي في بلد عربي في مسلسل أحداث القرن شاهداً على القرن وهو الذي أنتج 120 كتاباً فلسفياً في حياة علمية حافلة بالإنتاج وإتقان اللغات والاطلاع على ما أنتجه الفكر الحديث وهو يصلح للتطبيق على أماكن ليست بالقليلة في العالم العربي بسبب المرض الثقافي المشترك في النوعية مع الاختلاف في الدرجة كما في الحمى «التيفية» التي قد تصيب أحدهم بالإنهاك، ولكنها قد تضرب عند مريض آخر عضلة القلب فلا أحد يستطيع التكهن بمخطط رحلة المرض طالما تمكن من مفاصل المريض. وكذلك هي مصائر بلدان عربية منوعة بين العجز أو الكارثة الاجتماعية لأمم تعيش خارج التاريخ كمريض مصاب بأفظع حمى. يبدو أننا مازلنا في عصر الظلمات العربي، ولم ندخل مرحلة التنوير والعقلانية، وقد يكون ماينتظرنا نصف قرن أو قرنا آخر من ظلام جديد هذه المرة ليس باسم القومية بل باسم الله.