ليس أمضى غسيلاً للأدمغة مثل المخلوط بالدِّين. يذهب إلى أعماق نفوس الناشئين والبسطاء، ولا أكثر هتكاً للعقل أن يعتقد الإنسان، حال تفجير نفسه، أنه سيتعشى عشاءً نبوياً، مثلما لقنه الشيخ، وليس عليه إلا الطاعة، بعد تهيئة الأُصول مما روي عن الغزوات والمعارك الأُولى، حتى يتركه يتسربل، في خياله، قميص صحابي جليل، تمثل شخصه وقصته كيف كان بينه وبين دخول الجنَّة اللحظة التي قُتل فيها. نعم قرأنا روايات وأحاديث تُزهد بالحياة من أجل الجنَّة، لها ظروفها ومدلولاتها، وما زاد ونقص وما أُختلق في رواياتها، لكن هناك ما يُقابلها مِن نصوص حبِّ الحياة وتقديسها أقدس من الكعبة نفسها، ومعلوم ما هي منزلة الكعبة لدى المسلمين، والعرب قبل الإسلام أيضاً. قرأنا هذا عند أحد رجالات الدِّين المعتبرين في زمانه، إسماعيل بن محمد العلجوني (ت 1162 هـ): إن «لهدم الكعبة حجراً حجراً أَهون مِن قَتل المسلم» (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمَّا اشتهر من أحاديث على ألسنة الناس، حديث: 2086). وينقل العلجوني عن الطَّبراني في «الصغير»: «مَن آذى مسلماً بغير حق فكأنما هدم بيت الله» (كشف الخفاء). ونقرأ لدى أحمد بن شُعيب النسائي (303 هـ) في «السُّنن الصُّغرى» (كتاب تحريم الدم): «قَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا» (الكُتب الستة، حديث: 3991). نقرأ أيضاً عند محمد بن يزيد بن ماجة (ت 273 هـ): «عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» (الكتب الستة، حديث: 2619 )، وبالتالي الكعبة جزء مِن الدُّنيا. تلك أحاديث لا تختلف المذاهب حولها. ربَّ قائل يستفسر: ماذا عن غير المسلمين؟ الجواب: من غير تحريم الإساءة للمعاهدين، أهل الذِّمة أو أهل الكتاب، ألا يمكن أن نفهم صيغة الحديث «أهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْل مُؤْمِن» أنه يتضمن هؤلاء؟ ذلك إذا علمنا أن هناك آيات عديدات أشارت إلى أن الأديان كافة من حق الله وحده، لا غيره، يفصل بين أهلها، وليس في الدنيا إنما في الآخرة: «إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (الحج: 17). ثم تأتي الآية واضحةً في إيمان هؤلاء: «إِنّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (البقرة: 62). كذلك: «إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (المائدة: 69). سيتذرع بالنَّسخ المفتون بالقتل والقاتلون، بأن هذه الآيات مِن المنسوخات، لذا يُعطل العمل بها! وذريعتهم في ذلك قديمة وجديدة، مع أن فريقاً يعتبر هذه الآيات مِن المحكمات، غير أن الأكثرين يعتبرونها منسوخات بآية (البغدادي، النَّاسخ والمنسوخ): «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (آل عمران: 85). لنوافق مع مَن يريدون حجب هذه الآيات بالنسخ، لكن أيجوز قتل هؤلاء؟! وإرعابهم في مدنهم وقراهم، أم أن الحُكم، وهو من حق الله وحده، ينفذ في الآخرة لا في الدنيا؟! لقد أخذ المفتون بالقتل كلام هبة الله البغدادي (ت 410 هـ)، في الآية الخامسة مِن «التَّوبة»: «إنها نسخت من القرآن مئة آية وأربعاً وعشرين آية»، والآية هي: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ». أما قوله: «ثم صار آخرها ناسخاً لأولها، وهو قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (الناسخ والمنسوخ)، يبدو أنه لا يعنيهم بشيء، مثلما لا يعنيهم أنها تخص مشركي مكة، والسؤال: على أي مذهب تُقام الصلاة وتؤتى الزَّكاة المقبولتين عند المفتين بالموت؟! وكلُّ مذهب يقول أنا الناجي، وفقاً لحديث الافتراق والفرقة النَّاجية! صارت دماء الناس مرتهنة إلى حفنة من المتاجرين بالدِّين، ومثلما أشرنا أن الكعبة عزيزة على المسلمين كافة يحجون إليها ويعتمرون، ولا تُميز ثياب الإحرام فيها بين مذهب وآخر، فكيف بما هو أقدس منها وهو حياة الإنسان، حسب الحديث أعلاه؟ وما هو العشاء النَّبوي الذي ينتظر قتلة الأبرياء وقاطعي الرؤوس لشأن سياسي مغلَّف بالدِّين؟ كيف يعبئ الشَّباب مع منحهم «جواز الجنة» دفاعاً عن المراقد بالشام، وعلى وجه الجواز وضعت صورة لعلي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ)، وهي ملفقة بحد ذاتها، فمَن رأى علياً حتى رسمه؟ إذا كانت الكعبة أَهون مِن قتل المسلم، فما معنى بقية الأبنية؟ هل حقيقة أن المقاتلين الذين يشحنون بروح الكراهية والإغراء بالجنة، مع راتب خمسمائة دولار، غرضه الدفاع عن المراقد؟ أم أن هناك مطمعاً آخر َ يعرفه المُجندون لهؤلاء الشَّباب؟ الأمر نفسه عند المفتين مِن على المنابر، وعبر وسائل الإعلام، هل ما في ذهنهم مِن «الجهاد» هو الدفاع عن الدِّين أم هناك غايات أُخر؟ فانظروا كيف تستباح المقدسات لغاية شريرة. إنها لعبة خطيرة يلعبها تجار الموت، وهل هناك شر أكثر مِن سَوق الشباب إلى حتوفهم، بعد تعبئتهم بثقافة الاستشهاد؟ لا تتعدى حقيقتها كونها طاحونة سياسية والدِّماء ماؤها. إن بين العشاء النَّبوي وجواز الجنة مفاهمةً ومنافعَ متبادلةً، فالسُّوق واحدة والبضاعة واحدة هي الدَّم وإسقاط العقل إلى الحضيض. إنها لعبة تحتاج إلى فريقين متمايزين ظاهراً متفقين جوهراً في الوسيلة، ممارسة غسل الأدمغة بمزج الدِّين بالسِّياسة، ولو بحثت عن الدَّاعي إلى الجهاد والثَّمن العشاء النَّبوي؛ والمُحشد للدفاع عن المراقد والثَّمن جواز سفر إلى الجنة؛ ستجد أولادهما تحت جنحيهما، والحرب بأبناء المتعبين مِن النَّاس. فعلى أولياء الضحايا أن يفيقوا ويفهموا بأنه «ليس بين الله وبين أحد قرابة» (الهمداني، الأكليل)، كي يضمن الدُّعاة الجنَّة لأنفسهم فكيف للآخرين، بعشاء نبوي فيها أو بجواز إمامي إليها؟ استباقاً لما سيرد مِن أن هذا شأناً دينياً وفقهياً، له رجالاته، ليس مِن شأنك؟! أقول: إذا أخذتم تخوضون بالدِّماء وتتسلطون علينا بحاكمية الدِّين، أليس مِن حقنا الدِّفاع عن أنفسنا، وعن حضارة أخذت تُقضم تحت منابركم قضم الجراد للزّروع، نواجهكم بما تريدون حجبه مِن الدِّين والتَّاريخ، لسفك الدَّم باسم نبي أو إمام.