باتت مفاوضات السلام التي قيل ذات مرة إنها تجسّد السياسة الحكيمة للولايات المتحدة، أشبه بركوب دراجة هوائية وحيث لا يهم مدى بطئها في الحركة طالما أنها ما زالت ماضية نحو الهدف. وذلك لأن من المؤكد أنها ستسقط لو توقفت. ويعمل الآن جون كيري على وضع هذا المبدأ قيد الاختبار في أثناء سعيه الدؤوب لحل ثلاث من المشاكل الأكثر تعقيداً على مستوى العالم وهي: البرنامج النووي الإيراني، والحرب الأهلية في سوريا، والنزاع الإسرائيلي مع الفلسطينيين. ولم يتمكن «كيري» حتى الآن من بلوغ أي من المقاصد الثلاثة بدراجته البطيئة، على الرغم من أنه لايزال محتفظاً بتوازنه فوقها. وكان للصراع الدائر بين الولايات المتحدة وإيران أن يقصر اهتمام المفاوضين من الطرفين خلال الأسبوع الماضي على التفاصيل المرتبطة بتطبيق الاتفاقية النووية التي أعلن عنها بالكثير من الضجيج والتبويق يوم 24 نوفمبر الماضي. وهذه الصفقة التي تقتضي من إيران تحويل معظم كميات اليورانيوم الخطيرة (عالية التخصيب) إلى الحالة التي يستحيل معها استخدامها في صنع الأسلحة النووية، لم توضع موضع التنفيذ حتى الأسبوع الماضي. وأشار المفاوضون الأميركيون إلى أن طريقة المواربة يمكن أن تؤدي إلى فقد ثقتهم بجدية إيران في تنفيذ المرحلة المقبلة من الاتفاقية. وتتعلق تلك المرحلة بالتفاوض بجدية أكثر حول الصفقة طويلة الأمد التي تضمن للعالم أجمع بأن لا يشكل البرنامج النووي الإيراني أي خطر. وعلى أن الخطر الراهن الأكبر الذي يهدد الاتفاقية لا يأتي من «الملالي الراديكاليين» في طهران، بل من سياسات الكونجرس الأميركي مع اقتراب الانتخابات "النصفية"، وحيث يسعى «الجمهوريون» و«الديموقراطيون» معاً لإمرار مشروع قانون لفرض عقوبات جديدة على إيران إذا لم تلتزم بتطبيق بنود الاتفاقية النووية بحذافيرها. ولقد طلب كيري وبعض المسؤولين الآخرين من الكونجرس عدم الموافقة على القانون، وقال إن فرض عقوبات جديدة من شأنه أن يعطّل مسيرة المفاوضات. وذهب «جاي كارني» المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض إلى أبعد من ذلك عندما حذّر من أن هذا القانون سيمثل الخطوة الأولى نحو «اندلاع الحرب». وتبدو احتمالات نجاح المفاوضات بين الطرفين ضئيلة للغاية على الرغم من أنها لا زالت تسير إلى الأمام. وفيما يتعلق بالحرب الأهلية الدائرة في سوريا، فإن التقدم الذي تحققه سياسة كيري يصعب تقديره أو قياسه. وكان يحرص من خلال جهود حثيثة لا تتوقف على التحضير لعقد مؤتمر السلام الذي ينتظر عقده يوم غد 22 يناير ببلدة «مونرو» السويسرية. إلا أن هذا المؤتمر لن يتمكن من «إنتاج» الكثير من السلام. وبالرغم من أن المسؤولين الأميركيين مقتنعون بأن الأسد لن يوافق على البحث في فكرة التنحّي عن السلطة، إلا أن المعارضة وبالرغم مما تعانيه من انقسام لم توافق إلا على اقتراح محدد يقضي بأن على الأسد أن يرحل. وعبّر ممثلون أقوياء لبعض الأحزاب ذات التوجهات الدينية عن رفضهم المطلق للمشاركة في المؤتمر خوفاً من أن يؤدي إلى تقوية مزاعم الأسد بشرعية بقائه في الحكم. وبهذا يكون كيري وبقية المسؤولين الأميركيين قد خفضوا من سقف مطالبهم في تلك المفاوضات. وأما فيما يتعلق بالفكرة المراد تحقيقها من المؤتمر، فلقد صرّح «كيري» الإثنين الماضي بأنها تتلخص في: «البدء بالعملية التي نعلم جميعاً بأنها ستكون شاقّة وستستغرق وقتاً طويلاً». ويبدو أن «الدرّاجة الدبلوماسية الهوائية» لكيري أصبحت تعاني من الترنّح. ومنذ تراجع أوباما عن توجيه ضرباته الجوية ضد النظام، عمد إلى تعليق المساعدات العسكرية للثوار لأسباب تتعلق بالصراع المذهبي الذي لا ترى الولايات المتحدة أية مصلحة للتدخل فيه. وفيما يتعلق بمحادثات السلام الإسرائيلية- الفلسطينية، فلقد اتضح أن من العسير قياس أو تقدير أي تقدم يمكن لكيري أن يكون قد حققه في هذا المجال. ومنذ بدأ وزير الخارجية رحلاته المكوكية المتعددة إلى القدس، ظهر بوضوح بأن فرص نجاحه تكاد تكون معدومة تماماً. فلا الحكومة الإسرائيلية ونتنياهو من جهة، ولا السلطة الفلسطينية ومحمود عباس من جهة ثانية كانا مهتمين بهذه المفاوضات. إلا أن «كيري» نجح في لفت نظر نتنياهو إلى ضرورة الاعتراف علناً بأن من حق الفلسطينيين أن تكون لهم دولتهم المستقلة على أساس صفقة سلام. وقال كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات إنه يعتقد بوجود فرصة لعقد اتفاقية سلام. وبالرغم من فشل عدة صفقات سابقة فإن عريقات قال في مؤتمر صحفي إن «الفرق هذه المرة يكمن في وجود جون كيري». ولايزال الطريق الذي يمكنه أن يؤدي إلى عقد أية اتفاقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين طويلاً ومحفوفاً بالعقبات والصعاب. ويقول «كيري» إنه لا يتعلق بالأوهام بل يبدو كثير التفاؤل عندما يتحدث عن الفضائل الكامنة في اتفاقية السلام. وهو يقول في هذا الشأن: «دعنا نتصور ما يمكن للسلام أن يفعله فيما يتعلق بمستقبل الأجيال القادمة من المواطنين الإسرائيليين والفلسطينيين.. إنه يفتح أمامهم آفاقاً لا حدود لها». وقد يبدو لأول وهلة أن من الخطأ الفادح أن يقذف وزير الخارجية الأميركي بنفسه في خضمّ أكثر أزمات العالم استعصاء وتعقيداً، إلا أن الأمر يقتضي منا أن نكون عادلين في إطلاق الأحكام لأن ملف البرنامج النووي الإيراني لا يمكن تأجيله، ولا يمكن للمأساة السورية أن تنتظر أكثر، ويستحق النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي البحث عن حل نهائي. ويمكننا أن نتسامح مع الواقعيين ودعاة الدفاع عن المصالح السياسية عندما يتساءلون عما إذا كانت اهتمامات «كيري» بمشاكل الشرق الأوسط تتطلب دفع تكاليف باهظة بأكثر مما تنطوي عليه من عوائد. وإذا كُتب لمؤتمر السلام حول سوريا أن يفشل، فهل سينعكس ذلك سلبياً على سمعة الولايات المتحدة ورئيس دبلوماسيتها؟ وإذا كان كيري قد خصص عدة أشهر من دبلوماسيته غير المثمرة لقضية النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، فهل أدى ذلك إلى سرقة وقت مهم من أولويات سياسية أخرى بما فيها اندلاع الشرارات الأولى لنزاع الصين مع جاراتها، والمشاكل المتعلقة بالتغير المناخي والتي لم تحظَ بأي اهتمام منه؟ عندما طرحت هذه الأسئلة على مساعد كيري، كان جوابه غامضاً حين قال: «وما البديل؟». وربما كان المقصود من ذلك أنك عندما تركب دراجة في عالم مريض، فإن حركة صغيرة إلى الأمام ستكون أفضل من لا شيء. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم.سي.تي.انترناشونال»