رغم الانتظار الطويل، كان المشهد صادماً ومؤثراً. محكمة دولية جالسة بكامل أعضائها في ملعب رياضي استُحدث قاعةً لها بالقرب من لاهاي في هولندا، للنظر في جرائم اغتيال سياسي حصلت في لبنان بين أواخر 2004 وأواخر 2013. في المئة عام التي مضت، قبل الاستقلالات وبعدها، شهد العالم العربي مسلسلات لامتناهية من الاغتيال لسياسيين وأصحاب فكر ورأي، ولم تعلق في الأذهان سوى محاكمات محدودة، بعضٌ قليل جداً منها كان واضح الوقائع والأدلة، لكن أكثرها مشكوك في نزاهته وشفافيته. الأكثر إيلاماً من الجرائم أن لا يكون هناك أملٌ في عدالةٍ ما، عدالة محلية منبثقة من الدولة وسيادتها، عدالة محققة تراكم بفاعليتها ثقافة مجتمعية عامة قوامها احترام القانون وحرمة الدم وعدم الإفلات من العقاب، أما أن يُترك القاتل ليصادر أدوات العنف وحيادية القضاء فهذا ليس خياراً. والأكثر احباطاً ألا يكون هناك مفر من اللجوء الى محكمة دولية، رغم المآخذ على تحريف العدالة الدولية والتلاعب بها أحياناً بل سحقها وقتلها أحياناً أخرى (كما في التعامل الأميركي- الإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني)، لكن الاستكانة لسلاح القتل كأمر واقع، كقضاء وقدر، ليست أيضاً خياراً، ولابد من البحث عن العدالة في أي مكان. طوال خمسين عاماً هي عمر النظام السوري الحالي، عانى لبنان من التسلّط والترهيب، قبل اشتعال الحرب الأهلية في 1975 وبالأخص بعدها. قائمة التصفيات الجسدية لا تقتصر على أقطاب السياسة المعروفين، بل تشمل مئات الأشخاص من كل الطوائف والأحزاب، لأن الهدف كان التطويع والإخضاع وفرض الولاء بالتخويف والتهديد، بمقدار ما كان تغيير الحقائق والتلاعب بالمسار الطبيعي للسياسة عبر إزاحة وجوه وتقديم بدائل لها أكثر قابلية للاستزلام. لا أحد يجهل أن رفيق الحريري كان صديقاً وحليفاً لدمشق، وعمل معها عن كثب بحكم أن هناك توافقاً عربياً- دولياً أعطى النظام السوري «حق الوصاية» على لبنان، لذا لم يكن واقعياً استعداؤه أو تجاوزه. لكن هذه «الوصاية»، بمفهوم هذا النظام تحوّلت مصادرة كاملة للسيادة و«احتلالاً» بكامل المواصفات، بدليل التدخل في كل شأن وأي شأن والحؤول دون انتقال لبنان واللبنانيين إلى حياة طبيعية بعد ما اعتبر نهايةً للحرب. كان للحريري بعدٌ عربي- دولي جعله موضع تشكيك في سوريا، ثم جعله موضع اتهام وتهديد. أياً يكن قاتله لم يكن ممكناً أن يتصرّف بحرية ويهيئ هذا التفجير الضخم، ويعتمد على فريق كبير من المنفذّين من دون أن يكون «حزب الله» وأجهزته وعيونه قد علموا ولو مجرد علم بأن هناك شيئاً يحضّر ومن المصلحة «الوطنية» اعتراضه. أصبح معروفاً الآن، بفضل المحكمة الدولية، أن خمسة من القادة الأمنيين في «حزب الله» ضالعون في الجريمة. بعد شهرين على اغتيال الحريري انسحبت القوات السورية من لبنان وتسلّم «حزب الله» مقاليد «الوصاية» بالوكالة، واستمرّت الاغتيالات، ولعل أكثرها دلالة على هوية القاتل أن الضابط وسام عيد اغتيل لأنه توصل إلى بناء خريطة الاتصالات بين القتلة في مسرح الجريمة والطريق المؤدية إليه. هذا عسكري قام بعمله وبواجبه ومن دون أي دور سياسي، وبعد أربعة أعوام اغتيل مسؤوله وسام الحسن الذي لم يشفع له أنه كشف أكبر شبكة تجسس إسرائيلية في لبنان وكان عدد من خلاياها في سوريا وداخل «حزب الله» اللذين لم يشكراه على الخدمة التي أدّاها لهما بل شنّا عليه حملات تشكيك إلى أن استحق التصفية بعدما كشف مخطط تفجيرات كان بطله الوزير السابق ميشال سماحة، أحد أهم الكوادر اللبنانية المتعاملة مع النظام السوري. غصّت قاعة المحكمة بـ «ممثلي الضحايا»، وأغرورقت العيون بالدموع لرمزية اللحظة، فثمة عدالة ربما تأتي من عمل هذه المحكمة التي ساهمت دولٌ كثيرة في تغطية تكاليفها، لكن دولاً قليلة بل نادرة قدّمت إليها مساعدة حقيقية في تحقيقاتها رغم امتلاكها معلومات. في غياب المتهمين ستكون المحاكمة بناء على شهادات، وما أمكن التقاطه من أدلة ووقائع وأشرطة كاميرات. والأكيد أن الطموح الأكبر هو أن تتمكّن المحاكمة مباشرةً أو مداورةً من الإجابة على الأسئلة المعلّقة منذ تسعة أعوام: من أمر بالاغتيال، ومن تولّى التنفيذ، وما هي الدوافع والأسباب؟ رغم أن غالبية اللبنانيين والعرب مقتنعين بأن ثمة مسؤولية سياسية وتنفيذية لسوريا و«حزب الله»، لأن الحريري اتخذ في عاميه الأخيرين نهجاً استقلالياً، وهو ما اعتبره «نظام الوصاية» بمثابة «خيانة». ويبقى السؤال الأهم: هل أن هذه المحاكمة واللجوء إلى العدالة بدلاً من الثأر، يمكن أن يوقفا الاغتيالات فعلاً؟