لم تعد ظاهرة زواج المثليين «حالة شاذة» في معظم المجتمعات الغربية. بل إن مفهوم الأسرة بدأ ينقلب رأساً على عقب. فالرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند مثلاً غير مطلق. إلا أنه يقيم في القصر الرئاسي مع رفيقته. وهي مطلقة أيضاً وأم لأولاد. أما رفيقته السابقة (وليست زوجته) فتقيم مع رفيق لها وبصحبة أولادها من أولاند! وقبل ذلك كان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران متزوجاً. وكان يقيم منذ عام 1970 مع زوجته دانيال وابنه في القصر الرئاسي. إلا أن زوجته كانت على علاقة حب بشخص آخر يدعى جان بالانشي. وكان جان يقيم مع عائلة ميتران في القصر الجمهوري. كما كانت تقيم مع العائلة أيضاً في القصر عشيقة لميتران تدعى «آن بينجو». وقد أنجبت من ميتران ابنة سمياها «مازاريت». عاشت العائلة أو العائلتان بانسجام وسعادة طوال سنوات حكم ميتران. وكان بالانشي يقوم بنفسه صباح كل يوم بتسوق «الكراوسان» الطازج. وهو الخبز المفضل لدى ميتران في فطور الصباح. احتفظ ميتران بسرّين كبيرين؛ سرّ هذه العائلة.. وسرّ إصابته بسرطان البروستاتا الذي كان سبب وفاته. ولما افتضح السرّان، ذهل الفرنسيون لأنهم كانوا آخر من يعرف بمرض رئيسهم بسرطان البروستاتا! ذلك أن المرض يؤثر في عملية اتخاذ القرارات لدى الرئيس، وهو شأن عام. أما العلاقات العائلية فهي شأن خاص عندهم! وهو ما جدد التأكيد عليه أولاند في المؤتمر الصحفي الذي عقده منذ أيام، عندما سُئل لدى افتضاح علاقته مع ممثلة فرنسية خارج إطار علاقته مع رفيقته التي تقيم معه في قصر الأليزيه! وفي الولايات المتحدة لم يحاسَب الرئيس الأسبق بيل كلينتون ولم يشهّر به أمام الكونجرس بسبب علاقته مع المتدربة في البيت الأبيض «مونيكا لوينسكي»، ولكنه عوقب معنوياً لأنه «كذب» على الشعب الأميركي عندما أنكر علاقته معها. فالتهمة كانت «الكذب» ولم تكن «العلاقة المحرمة». ثم إن ما أقدم عليه كلينتون لا يشكل سابقة في تاريخ الرؤساء الأميركيين. فالتاريخ يثبت أن أحدهم أنجب من سيدة سوداء كانت بين عاملات التنظيف في البيت الأبيض. ولا يزال أحفاد تلك العاملة يحملون جينات الرئيس الأميركي الأسبق! وقد وضعت مجموعة من علماء الاجتماع في الولايات المتحدة دراسة تحت عنوان: «مستقبل الإنسانية: صعود ما بعد الأسرة». وتتضمن الدراسة إحصاءات تشير إلى هذا الصعود. ومن هذه الإحصاءات مثلاً أن نسبة ما بين 40 و 45 في المئة من الإسكندينافيين (السويد -النرويج -الدانمرك -فنلندا) يعيشون منفردين. أي من دون علاقات زوجية. أما في الولايات المتحدة فقد ارتفعت النسبة من 9 في المئة في عام 1950 إلى 28 في المئة اليوم. كما انخفضت نسبة الأميركيين الذين يعتقدون بأهمية إنجاب أطفال بالنسبة للعائلة من 65 في المئة في عام 1990 إلى 41 في المئة اليوم. وفي إسبانيا تراجع عدد المواليد في عام 2012 إلى أقل مما كان عليه في القرن الثامن عشر! وانخفض عدد عقود الزواج من 270 ألفاً في عام 1975 إلى 170 ألفاً اليوم. وسجلت اليونان في عام 2011 تراجعاً في عدد السكان، إذ تجاوز عدد الوفيات عدد المواليد بـ 4671 شخصاً. وفي عام 2012 تواصل هذا التجاوز ليبلغ 16300 شخص! ونتيجة لذلك يعاني المجتمع اليوناني من الشيخوخة كسائر المجتمعات الأوروبية الأخرى بسبب التغيير الجذري في القيم العائلية.. وينعكس ذلك على الاقتصاد. إذ يقدر عدد العاملين في اليونان استناداً إلى إحصاءات 2012 بحوالي 3,8 مليون شخص، فيما يبلغ عدد المحالين على المعاش (المتقاعدين) 4,1 مليون شخص! أي أن المجتمع ينفق على الخدمات الاجتماعية أكثر مما ينتج. وهذا ما يفسر هبوط الإنتاج القومي في اليونان بنسبة 25 في المئة منذ عام 2008. وفي ألمانيا تؤكد نسبة 30 في المئة من النساء أنهن لا يرغبن على الإطلاق في إنجاب أطفال. وترتفع هذه النسبة في تايوان إلى 50 في المئة. وحتى في البرازيل في أميركا الجنوبية، انخفضت نسبة خصوبة المرأة من 4,3 طفل إلى 1,9 طفل. ولعل أبرز مظاهر هذه الحالة تعكسها أيسلندا حيث إن نسبة 60 في المئة من أطفالها من إنجاب غير شرعي، أي خارج العلاقات الزوجية. وفي دراسة علماء الاجتماع تفسير لهذه الظاهرة، يستند إلى عدة أسباب، منها: أولاً: تراجع الإيمان الديني. ولأن هذه الظاهرة غير موجودة في مجتمعات الدول الإسلامية، فإن وضع العائلة لا يزال سليماً. وكذلك نسبة الزواج والإنجاب. فقد ارتفع عدد مسلمي العالم إلى مليار و600 مليون نسمة. وبالمقارنة فإن المجتمعات غير المتدينة كالمجتمعات الغربية مثلاً تعاني من تناقص مطرد في عدد سكانها. ولذلك يبدو لهذه المجتمعات أن الحجم السكاني الإسلامي متضخم جداً.. بل انفجاري.. ففي روسيا مثلاً هناك قلق شديد من استمرار تراجع نسبة المواليد. إذ إن هذه النسبة تقل عن نسبة الوفيات الطبيعية. ثانياً: تصاعد ضغوط الأعباء الاقتصادية على العائلة؛ وبالتالي كلما صغرت العائلة تراجعت الأعباء. ومع إلغاء العائلة تلغى الأعباء! ثالثاً: ارتفاع نسبة نفقات تربية الأطفال وتنشئتهم. فحجم الإنفاق على الطفل يزيد من حجم الإفادة منه! رابعاً: التحول في القيم الاجتماعية بحيث إن الأفضلية أصبحت لمن يملك مالاً أكثر. وتبين الإحصاءات الرسمية ارتفاع عدد أثرياء العالم بنسبة 6 في المئة بين عامي 2012 و2013، إذ يبلغ العدد 199235 شخصاً تبلغ ثروة كل منهم 30 مليون دولار كحد أدنى. وطبعاً هناك المئات من أصحاب المليارات في آسيا وأميركا وأوروبا وحتى في أفريقيا والشرق الأوسط. وبالنتيجة فإن نسباً متزايدة من الناس في مختلف القارات، بما فيها آسيا، أصبحت تبحث عن شكل جديد من العلاقات بدلاً من العلاقة التقليدية المحددة بـ«الزواج وتكوين العائلة». فالعائلة لم تعد هي الرابط الوحيد. ولكنها أصبحت «إحدى» الروابط. والخيارات في مجتمعات الغرب مفتوحة أمام أشكال جديدة للروابط تتفيأ في ظل «حقوق الإنسان»، بما فيها حرية الاختيار! وقد حمل هذا التحول الفاتيكان على قرع جرس الخطر الاجتماعي، فنظم مؤتمراً خاصاً حول مستقبل العائلة. وقد رفض المؤتمر إطلاق اسم عائلة على زواج المثليين. وعلى رغم أن الكنيسة الكاثوليكية ترفض هذه العلاقة وتدينها، فإن بعض الكنائس الإنجيلية خاصة في الولايات المتحدة تتعامل معها على أنها طبيعية وشرعية. حتى إن هذه الكنائس عينت قسيسين في سلكها اللاهوتي يجاهرون بعلاقاتهم المثلية. وقد تكونت «عائلات» من خلال التبني، الأمر الذي يرسم علامات استفهام كبيرة ومقلقة حول تربية هؤلاء الأطفال ومستقبلهم.. وحول علاقاتهم المستقبلية في المجتمع وطريقة عملهم عندما يتبوأون مواقع قيادية في المستقبل. ومن هنا السؤال: أي مستقبل ينتظر المجتمعات في العالم، وأي قيم ترسو عليها العلاقات الدولية في ضوء هذه المتغيرات البنيوية على شكل العائلة وبنيتها الأخلاقية؟