قلبت الأزمة المالية الكثير من الثوابت التي سيرت الاقتصاد العالمي لسنوات طويلة، وفرضت سياسات مالية لم يكن بالإمكان حتى مجرد التفكير في اتخاذها قبل عام 2008، فالتداعيات الناجمة عن الأزمة، عصفت باقتصادات العديد من البلدان، وبالاقتصاد الدولي ككل، بحيث أصبح باستطاعة المشرعين في البلدان الغربية اتخاذ أية أنظمة تعيد الأمور إلى نصابها. وتعتبر الولايات المتحدة الأميركية من أكثر البلدان التي اتخذت إجراءات صارمة تمس حياة الملايين من مواطنيها في الداخل والخارج، لدفع المزيد من الضرائب التي يمكن أن تساهم في تقوية الوضع المالي المتهالك والمعتمد على الديون بصورة متزايدة. وفي إجراء لا مثيل له تقرر أن يطبق اعتباراً من بداية شهر يناير الجاري قانون «فاكتا» والرامي إلى إخضاع أموال الأميركيين في الخارج للضرائب، وللرقابة الشديدة حتى وإنْ كان هؤلاء يدفعون ضرائب في البلدان التي يعملون ويعيشون بها. وفرض القانون على المصارف والمؤسسات المالية الأجنبية في مختلف البلدان تقديم تفاصيل عن أموال وحسابات الأميركيين، وإلا تعرضت هذه المصارف لعقوبات أميركية، مثلما حدث مع بنك «يوزبيزاس» السويسري عام 2009. ونتيجة لهذه الإجراءات، فإن عصر الجنة الأميركية التي سعى الملايين من المهاجرين الوصول إليها يكون قد شارف على نهايته، بل على العكس، إذ بسبب هذا القانون تخلى ما يقارب 4 الآف أميركي عن جنسيتهم في العام الماضي 2013 للهروب من قانون «فاكتا» الصارم، علماً بأن هناك 7 ملايين أميركي مغترب في مختلف بلدان العالم، بما فيها البلدان العربية لا زالوا حائرين في كيفية التصرف حيال ذلك، خصوصاً وأن التخلي عن الجنسية لا يكفي للخروج من المأزق، إذ لا بد من تسوية الضرائب لكل فرد خلال السنوات الخمس السابقة للتخلي عن الجنسية وأن يبرؤوا ذمتهم المالية خلال تلك الفترة. أما المصارف والمؤسسات الأجنبية التي تملك حسابات لمواطنين أميركيين، بما فيها المصارف العربية، فإنها أمام خيارات صعبة، إذ عليها تقديم معلومات شاملة عن عملائها من حاملي الجنسية الأميركية، وإلا تعرضت لعقوبات صارمة، ربما تكلفها ملايين الدولارات، مما حدا ببعض البنوك إلى رفض فتح حسابات للأميركيين أو إغلاق حساباتهم الحالية وصعّب من الحياة المعيشية للكثيرين منهم. وحتى الآن من غير المعروف إلى أي مدى يمكن أن يساهم هذا القانون في التخفيف من حدة الأزمة المالية التي تواجهها الولايات المتحدة، خصوصاً أن هناك جوانب سلبية سترافق عملية التطبيق في بداية العام الجاري، فبالإضافة إلى أن التخلي عن الجنسية سيفقد الولايات المتحدة كفاءات وخبرات مهمة، كما أن ذلك سيساهم أيضاً في انخفاض عمليات تحويل الأموال لسبعة ملايين أميركي لا يزال الاستثمار في وطنهم يعد أحد الخيارات المفضلة لديهم، حيث ستحاول العديد من البلدان المتقدمة استقطاب هذه الكفاءات وتقديم التسهيلات اللازمة لها. وفي نفس هذا الاتجاه، قررت بريطانيا فرض ضرائب لأول مرة على مالكي العقارات من غير المقيمين اعتباراً من أبريل عام 2015، وهو ما يعد بدوره سابقة ربما تقلل من أهمية السوق العقارية البريطانية، والتي تعتبر من أفضل الأسواق جذباً للاستثمارات الخارجية. لذلك، فإن الأمر المهم بالنسبة للمصارف والمؤسسات المالية والمستثمرين الخليجيين التهيؤ لهذه الإجراءات، أولاً من خلال الالتزام التام بقانون «فاكتا» الأميركي والذي ربما تكون مخالفته مكلفة للغاية، وثانياً لابد من مراقبة تفاصيل الضرائب العقارية البريطانية المقررة العام القادم، والتي تتطلب إعادة النظر في الاستثمارات الهائلة في القطاع العقاري البريطاني، إذ قد يتم الاستحواذ على معظم المكاسب التي يمكن تحقيقها من عوائد الاستثمار هناك في حالة تطبيق القانون الجديد. تداعيات الأزمة كثيرة ومعقدة، ولا تزال تتوالى فصولها رغم تحسن الاقتصاد العالمي، إلا أن متابعة الإجراءات والقوانين المستجدة وتفادي مطباتها وعواقب تطبيقها يعتبر أمراً في غاية الأهمية للاستثمارات الخليجية في الخارج، بما فيها استثمارات القطاع الخاص.