في غضون السنوات القليلة الماضية نجحت الدول المتوطن فيها مرض الملاريا، وخصوصاً تلك الواقعة في أفريقيا جنوب الصحراء، في تحقيق تقدم ملحوظ على صعيد خفض معدلات الإصابة، والوفيات الناتجة عن الملاريا. ولكن مؤخراً، وبالتحديد في منطقة جنوب شرق آسيا، أصبح هذا النجاح مهدداً، في ظل ظهور تزايد قدرة الطفيلي المسبب للمرض على مقاومة بعض العقاقير المستخدمة حالياً في العلاج، والتي تشكل محوراً مركزياً حالياً في جهود مكافحة الملاريا، مما يهدد بارتفاع معدلات الإصابة والوفيات العالمية مرة أخرى. ويعتبر هذا التهديد الحديث تكراراً لسيناريو وقعت أحداثه في عقد الستينيات عندما تمكن طفيلي الملاريا، وفي نفس منطقة جنوب شرق آسيا -وبالتحديد في الدول الست الواقعة ضمن حوض نهر «الميكونج»- من توليد مقاومة ضد عقار «الكلوروكوين» واسع الاستخدام حينها في العلاج. وسرعان ما انتشر جنس الطفيلي القادر على مقاومة «الكلوروكوين»، من جنوب شرق آسيا إلى أفريقيا، متسبباً في حدوث طفرة هائلة حينها في معدلات الإصابة والوفيات، وخصوصاً بين الأطفال. ويقض حالياً الخوف من تكرار أحداث ذلك السيناريو مضاجع العاملين في المجال الصحي على المستويين المحلي والدولي، في ظل تواتر التقارير عن ظهور أنواع من الطفيلي، في كل من كمبوديا، وتايلاند، وميانمار، وفيتنام، قادرة على مقاومة عقار «الآرتيمسينين»، الذي يعتبر مكوناً أساسياً في التركيبات العلاجية المستخدمة حالياً. ولذا على رغم نجاح الجهود المحلية في احتواء هذه الظاهرة إلى حد ما، إلا أن درجة خطورة الوضع، واحتمال انتشار الأنواع المقاومة من الطفيلي لعقار «الآرتيمسينين» لدول أخرى خارج حوض نهر «الميكونج»، مما ينذر بكارثة صحية عالمية بجميع المقاييس، أصبحت تتطلب جهوداً عاجلة ومكثفة للقضاء على تلك الأنواع، والحفاظ على فعالية التركيبات العلاجية المستخدمة حالياً. وخصوصاً في ظل حقيقة أنه على رغم أن جهوداً حثيثة تبذل في العديد من المراكز البحثية المختلفة حول العالم، لتطوير أنواع جديدة من العقاقير القادرة على علاج الملاريا، إلا أنه حتى الآن لا يلوح في الأفق القريب أي بديل فعال لعقار «الآرتيمسينين». وهذا ما حدا بمنظمة الصحة العالمية مؤخراً لإطلاق مبادرة جديدة ضمن «الاستجابة الطارئة لمقاومة الآرتيمسينين»، في العاصمة الكمبودية «بنوم بنه» بالتعاون مع الجهات الصحية المحلية، وتفعيل التقييم المشترك من عدة شركاء لفعالية جهود المكافحة الحالية، بناء على إطار استراتيجية المنظمة الدولية لمكافحة المرض. والملاريا مرض معد يتسبب فيه طفيلي ينتقل من المرضى إلى الأصحاء عن طريق لدغات البعوض. ويعتبر طفيلي الملاريا إحدى القوى الرئيسية التي لعبت دوراً مهماً في تحديد مسار التاريخ البشري في العديد من مراحله، حيث تظهر الدراسات الأثرية أن طفيلي الملاريا قد أصاب أفراد الجنس البشري، على مدار أكثر من 50 ألف عام. وحتى يومنا هذا لا يزال طفيلي الملاريا من أهم القوى المؤثرة في مقدرات البشر في العديد من مناطق العالم، حيث تصيب الملاريا حالياً ما بين 350 مليوناً إلى 500 مليون شخص سنوياً، يلقى ما بين مليون إلى ثلاثة ملايين منهم حتفهم، مما يجعل الملاريا من أكثر الأمراض المعدية فتكاً بالبشر، على الإطلاق، وخصوصاً بين الأطفال، حيث تشير التقديرات إلى وفاة طفل بالملاريا كل 30 ثانية، بينما يظل نصف أفراد الجنس البشري معرضين بصفة دائمة لخطر انتقال العدوى. وجدير بالذكر أنه خلال عقد الستينيات وبداية عقد السبعينيات كان معدل الإصابة بالملاريا بين سكان دولة الإمارات يتراوح بين 30 إلى 60 في المئة، حسب بعض التقديرات. ومع بدء تطبيق استراتيجية المكافحة الشاملة منذ عام 1977، نجحت الجهات الصحية المحلية في خفض معدلات الإصابة بأكثر من 70 في المئة بحلول عام 1985، وتوقف انتقال المرض كلياً بحلول عام 1998. ونجحت الإمارات منذ ذلك الوقت، في الحفاظ على وضعها، كأول دولة في إقليم شرق المتوسط، يتأكد لمنظمة الصحة العالمية والهيئات الصحية الدولية خلوها من المرض نهائياً. وتسعى دولة الإمارات حالياً للحفاظ على هذا النجاح، من خلال دعم جهود مكافحة المرض في الدول المجاورة، لمنع انتقاله وعودته إلى أراضي الدولة مرة أخرى. وهو ما تجسد من خلال مبادرة الجهات الصحية بالدولة قبل ثلاثة أعوام، بالتبرع بمبلغ 25 مليون دولار (92 مليون درهم) لدعم جهود الأمم المتحدة الرامية للقضاء على الملاريا في شبه الجزيرة العربية، ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام، بحلول عام 2015. حيث لا تزال الملاريا تستوطن الساحل الغربي لإيران، ومنطقة الأهوار وشرق العراق، وجنوب شرق ووسط تركيا، بالإضافة إلى بعض البؤر المعزولة في دول أخرى، مثل منطقة الواحات في مصر، والحدود الجنوبية المشتركة بين ليبيا والجزائر، وبعض المناطق في عمان والمغرب. وإن كانت المناطق الساحلية في اليمن، ومنطقة عسير بالسعودية، تعتبر من المناطق المستوطن فيها المرض بمعدلات مرتفعة، مما يجعلها بؤرة خطر، وحجر عثرة، في طريق جهود دول المنطقة للقضاء على طفيلي الملاريا، والتخلص منه تماماً دون رجعة.