من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، إلى تقنيات الإيهام بالإغراق، إلى الهجمات باستعمال طائرات بدون طيار... يبدو كما لو أن العلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط مكتوب عليها التدهور. تدهور كثيراً ما كانت تساهم فيه وكالة الاستخبارات المركزية، الـ«سي آي إيه»، التي كانت تصب النار على الزيت في أحيان كثيرة من خلال تدخلاتها وعملياتها التي تثير سخط وغضب شعوب المنطقة. غير أن هذا الوضع ليس حتمية تاريخية، بل على العكس، حيث كان الجيل الأول من عملاء الـ«سي آي إيه» يمثل في الواقع أقوى حليف غربي للمنطقة. في كتاب «لعبة أميركا الكبرى»، يكشف «هيو ويلفورد» أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا في لونج بيتش، ، جانبا خفيا من تاريخ أنشطة الـ«سي آي إيه» في الشرق الأوسط بين عقدي الأربعينيات والخمسينيات، وذلك عبر تعقب أنشطة ثلاثة من أكثر عملاء الوكالة تأثيراً في الشرق الأوسط: كُرميت روزفيلت، وآرتشي روزفيلت، ومايلز كوبلاند. ففي الأربعينيات، انضم الرجال الثلاثة إلى الـ«سي آي إيه» التي كانت قد أُنشئت حديثا ليصبحوا أعينها في الشرق الأوسط؛ وهكذا، عُين كوبلاند وآرتشي روزفيلت مديرين لمحطة الـ«سي آي إيه» في دمشق وبيروت، بينما عُين كرميت روزفيلت مديرا لوحدة العمليات السرية في المنطقة. وكانت تجمع بين هؤلاء الثلاثة رؤية موحدة للمهمات التي ابتعثوا من أجلها. وهكذا، قام هؤلاء «المستعربون»، الذين كان هدفهم توجيه المشاعر القومية المتوقدة التي كانت تجتاح الشرق الأوسط وقتئذ لخدمة مصالح الولايات المتحدة، بنسج علاقات مع سياسيين تقدميين وضباط عسكريين عبر المنطقة، وعملوا ضد الأنظمة التي كانت قبضتها على الحكم قد أخذت تنفلت مع مرور الوقت. وفي الخمسينيات، أتاح الشرق الأوسط فرصا مفاجئة لهؤلاء الرجال. فكرميت، على سبيل المثال، كان هو القوة الدافعة خلف تأسيس «أصدقاء الشرق الأوسط الأميركيين». وإذا كانت هذه المنظمة تبدو في ظاهرها مؤسسة خاصة تهتم بـ«الدبلوماسية الشعبية»، فإنها كانت في الحقيقة جبهة للـ«سي آي إيه» سعت إلى إضعاف الدعم لإسرائيل في الولايات المتحدة؛ حيث أرادت الـ«سي آي إيه» إحداث وزن مضاد للوبي الموالي لإسرائيل يروج لقراءة جديدة للمنطقة على نحو مناوئ للصهيونية حتى عام 1967، عندما كشفت مجلة «رامبارتس» الراديكالية عن تمويل الوكالة لمنظمات داخلية. وكان كُرميت وآرتشي ومايلز ومستعربون آخرون يعتقدون أن قرنا من النشاط التبشيري الأميركي قد عبَّد الطريق لعهد من الهيمنة الأميركية في المنطقة – ولكن فقط إذا أمكن وضع الإسرائيليين على الهامش. ومثلت إدارة آيزنهاور الأولى فترة ازدهارهم وتألقهم؛ حيث منح آيزنهاور ووزير خارجيته جون فوستر دالس هؤلاء المهنيين في وزارة الخارجية والـ«سي آي إيه» تفويضاً واسعاً. ولكن رغم جهود المستعربين الكبيرة، إلا أن الزعيم المصري جمال عبدالناصر جنح إلى المعسكر السوفيتي وأخذ يشجع الثورات القومية عبر المنطقة. وفي معرض تفسيره لأسباب ذلك، يقول ويلفورد إنه على الرغم من موقف الولايات المتحدة المؤيد للعرب عموما – ومن ذلك وقوفها إلى جانب مصر ضد بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في العدوان الثلاثي (أزمة قناة السويس) عام 1956 – إلا أنها سارت في عهد إدارة آيزنهاور على خطى الإمبراطورية وانتهجت سياسات ضد العرب. ثم جاءت الحرب العربية – الإسرائيلية في 1948 واعتراف إدارة ترومان الفوري بإسرائيل ليثيرا موجة من المشاعر المعادية للولايات المتحدة عبر المنطقة. ولكن رغم هذه الانتكاسة، إلا أن مستعربي الـ«سي. آي. إيه» استمروا خلال السنوات القليلة التي أعقبت ذلك في مغازلة مجموعة من الزعماء القوميين، أو من كان يطلق عليهم«الأفنديات الشباب». بيد أن تغييراً في واشنطن سرعان ما وضع حداً لتلك المغازلات. وهنا، ينحي «ويلفورد» باللوم على رجل واحد: الوزير «دالاس»، ذلك أنه بينما كانت الحرب الباردة تتكرس والعداء بين المعسكرين يستحكم، أصبح «دالاس» ينظر إلى المشاركين في الحركات القومية والمعادية للاستعمار في العالم العربي – بل وفي العالم أجمع – باعتبارها حركات يمكن أن تصبح موالية للشيوعية، ويعتقد أنه لا ينبغي عدم دعم قضاياها فحسب، وإنما وأدها في المهد. وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط، أصبح عداء «دالاس» لأي حركة إصلاحية واضحا لا تخطئه العين لدرجة أن الكثيرين في الـ«سي آي إيه» أخذوا يتساءلون صراحة ما إن كان الوزير قد فقد صوابه. غير أن اللافت هنا هو السرعة التي كان «المستعربون» مستعدين للقفز بها من الشيء إلى نقيضه، والانتقال من تحديد الزعماء العرب التقدميين وتشجيعهم إلى محاولة إضعافهم والتخلص منهم، ومن الاستهزاء بالأنظمة التابعة التي تركتها القوى الأوروبية وراءها إلى التقرب منها. ولعل أبرز مثال على ذلك هو دور «كيمرت روزفيلت» في انقلاب 1953 الذي أطاح بمحمد مصدق، ولكن الأمثلة هنا كثيرة وعديدة ومنها: مشاركة «كوبلاند» في مخططات لاغتيال ناصر، وجهود آرتشي الحثيثة لإسقاط الحكومة السورية المنحازة إلى ناصر. غير أن كل ذلك أفرز في النهاية نتائج عكسية، حتى لا نقول كارثية. ذلك أنه بنهاية العقد، كانت الولايات المتحدة قد أصبحت مكروهة في مناطق واسعة من الشرق الأوسط تماما على غرار القوى الأوروبية التي سبقتها. محمد وقيف الكتاب: لعبة أميركا الكبرى: مستعربو الـ«سي آي إيه» السريون وتشكيل ملامح الشرق الأوسط المعاصر المؤلف: هيو وليفورد الناشر: بايسيك بوكس تاريخ النشر: 2013