آن أوان أن أختتم سلسلة المقالات المتتابعة التي خصصتها لمشكلات البحث العلمي في الوطن العربي والتي كانت موضوع محاضرتي التي ألقيتها في جامعة «زويل». وقد تبين لي من تعليقات قرائي الكرام على المقالات أن هناك في أذهان بعضهم أسئلة معلقة لم تجد إجابة، وخصوصاً في التناسب بين البحوث الأساسية والتطبيقية في مدينة «زويل»، وكذلك في التركيز على العالمية في المقام الأول دون الاهتمام الكافي بتوجيه الجهد أساساً للمشكلات المحلية. ويمكنني القول إنني تابعت بدقة مشكلات البحث العلمي -وخصوصاً من الناحية السوسيولوجية- منذ سنوات بعيدة حين كنت باحثاً بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية. فقد اهتممت منذ أواخر الخمسينيات بالاطلاع المنهجي على المراجع الأساسية في مجال تاريخ العلم وسوسيولوجيا العلم وفلسفة العلم. وظل هذا الاهتمام باقياً حتى الآن، إدراكاً منى للأهمية القصوى للبحث العلمي وعلاقته المباشرة بالتنمية المستدامة. ويشهد على ذلك أنني خصصت في كتابي «العالمية والعولمة» (القاهرة: نهضة مصر 2002) الفصول الأخيرة للكتاب لموضوع «العلم والعولمة»، وهى عبارة عن مقالات أساسية تتبعت فيها أعمال «المؤتمر العالمي للعلم» الذي انعقد في الأسبوع الأخير من يونيو 1999 وحضره ممثلون من مائة وخمسين دولة. وليس هناك من شك في أننا نعيش في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية. والثورة العلمية تعني- من بين ما تعنيه- أن العلم أصبح لأول مرة في تاريخ الإنسان عنصراً أساسياً من عناصر الإنتاج. أما التكنولوجيا فهي – في أبسط تعريفاتها- التطبيقات العملية للعلم. ولا شك أن انعقاد هذا المؤتمر العالمي بعد كل التطورات العلمية والتكنولوجية التي حدثت في العقود الأخيرة، بالإضافة إلى موجات العولمة المتدفقة، وما أحدثته من تطورات عميقة في العلاقات المتشابكة بين الدول، ليجعل انعقاد هذا المؤتمر حدثاً بارزاً، خصوصاً ونحن في بداية الألفية الثالثة. وإذا حددنا حصاد المؤتمر الذي حفل بالمناقشات حول العلم والعولمة، والقيم العلمية، وعلاقة العلم بالمجتمع، لقلنا إن أهم ما فيه، كان هو الإعلان الذي أصدره عن «العلم واستخدام المعرفة العلمية»، وكذلك «أجندة العلم وإطار العمل». ولا يتسع المقام لاستعراض كل الموضوعات التي ناقشها المؤتمر، وتكفينا الإشارة إلى الحصيلة الرئيسية له والتي تتمثل في الإعلان الذي صدر في نهايته. ومن الصعوبة بمكان عرض وتحليل المبادئ الرئيسية التي تضمنها «الإعلان العالمي للعلم» أو الإشارة المتصلة لتوصياته، لذلك نقنع بالإشارة الموجزة لأهم التوصيات التي وردت بالنسبة للموضوعات التي تضمنها الإعلان. وتتمثل هذه التوصيات في أربعة أساسية هي «العلم من أجل المعرفة، والمعرفة من أجل التقدم، والمعرفة من أجل السلام، والعلم من أجل التنمية، والعلم في المجتمع والعلم من أجل المجتمع. لقد تعمدت أن أبدأ مقالي بالإشارة إلى توصيات المؤتمر العالمي للعلم، لأن السياسة العلمية المبدعة التي وضعتها مدينة «زويل» تعد ترجمته أمينة لهذه المبادئ الأساسية التي أجمع عليها علماء العالم من كل الجنسيات. ومدينة «زويل» للعلوم والتكنولوجيا – كما جاء في دليل التعريف بها- «مشروع مصر القومي للنهضة العلمية»، والذي ينطلق من رسالة محددة للمدينة هي -وأنا أقتبس- «أن المدينة بمكوناتها الخمسة الجامعة والمعاهد البحثية وهرم التكنولوجيا والأكاديمية ومركز الدراسات الاستراتيجية مصممة لتحقيق المشاركة الفعالة في علوم القرن الحادي والعشرين بهدف النهوض بالتكنولوجيات المحلية، ودفع مصر لترقى إلى المستوى العالمي. وتستهدف المدينة المساهمة في بناء مجتمع مبنى على المعرفة، ومؤسس على التفكير الخلاق، وذلك من خلال توفير منظومة علمية مبنية على الكفاءة والتعامل مع المجتمع الأوسع». وفى تقديرنا أن هذه الفقرات المركزة تحدد بوضوح العلاقة بين الجوانب العالمية والمحلية، وتشير إلى الربط الوثيق بين العلم والتنمية والتقدم. وتتكون مدينة «زويل» من خمسة هياكل أساسية مترابطة لكن لكل منها مهمة منفصلة. هناك أو «الجامعة» للتأهيل في المجالات الحقيقية للعلوم والهندسة، ثم لدينا «المعاهد البحثية المتميزة» في مجالات البحث والتطوير، والهيكل الثالث هو «هرم التكنولوجيا» لنقل التكنولوجيا إلى السوق العالمية. وهناك «أكاديمية» لإعداد الطلاب الموهوبين في مرحلة ما قبل الجامعة. وأخيراً نجد إبداعاً حقيقياً في مجال الربط المحكم الوثيق بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والذي يتمثل لأول مرة في إنشاء «مركز للدراسات الاستراتيجية» للمشاريع القومية الكبرى وتقييم الفوائد والمخاطر ذات الصلة. وينص دليل المدينة على أنه لن تكون المدينة جزيرة منعزلة، بل إنها تنسق وتتعاون مع الجامعات ومراكز البحث الوطنية، بالإضافة لتلك القائمة في البلدان الأخرى. وسوف تقوم المدينة بدور الوسيط لإنشاء شراكات في تعليم العلوم والهندسة والرياضيات. ويبقى السؤال الأساسي عن ما هي المعاهد البحثية التي أنشئت فعلاً في المدينة وبدأت في العمل«؟ سبعة معاهد وافق مجلس أمناء المدينة على إنشائها تمثل المجالات البحثية التالية: معهد علمي للعلوم الطبية ويتضمن مركزين الأول مركز دراسات الشيخوخة والأمراض المصاحبة لها والثاني مركز علوم الجينوم. والمعهد الثاني معهد علوم النانو والمعلومات، ويتضمن ثلاثة مراكز هي مركز الإلكترونيات ومركز تكنولوجيا النانو ومركز علوم المواد. والمعهد الثالث معهد التصوير والمرئيات، ويتضمن مركز التصوير الميكروسكوبي. والمعهد الرابع معهد الطاقة والبيئة والفضاء وفيه مركز النوتونات والمواد الذكية. ويلفت النظر حقاً «معهد علوم الاقتصاد والشؤون الدولية»، ويتضمن مركز طلعت حرب للاقتصاد والتنمية، ومعهد العلوم الأساسية وفيه مركز الفيزيا النظرية، وأخيراً معهد التعليم الافتراضي. أرجو بهذه الإشارات الموجزة أن أكون قد أبرزت الملامح الأساسية للسياسة العلمية المبدعة لمدينة «زويل» للعلوم والتكنولوجيا والتي تقوم فلسفتها الأساسية على التأليف الخلاق بين العالمي والمحلي من ناحية، وإحكام الصلة بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، وتحديد الهدف الاستراتيجي بدقة بالغة، وهو تراكم المعرفة العلمية، وتوظيفها لأهداف التنمية المستدامة سعياً إلى تحقيق التقدم المطرد. وهكذا يمكن القول إن الدكتور «أحمد زويل» بفضل وقوفه في صدارة المشهد العلمي العالمي نظراً لإنجازات العلمية المبهرة، ونظراً لفهمه العميق للتطورات الكبرى التي لحقت بممارسة البحث العلمي المتقدم، استطاع في السياسة العلمية لمدينة زويل أن يؤلف تأليفاً خلاقاً بين البحوث الأساسية والبحوث التطبيقية، وبين المحلية والعالمية، وأخيراً وقد يكون أولاً بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية وهو التوجه المعرفي الذي سيميز ممارسة العلم في المستقبل.