ندوة «مستقبل الإسلام السياسي في الوطن العربي» التي يعقدها «مركز دراسات الوحدة العربية» السبت القادم، تبدو متواضعة بعدد أوراقها التي يناقشها باحثون من بلدان عربية عدة، إلا أنها كجبل الجليد العائم، لا يعكس سطحه فوق الماء كتلته العميقة من مؤتمرات، وندوات، وبحوث، وكتب عن الحركات والجماعات الإسلامية، فضلاً عن منظمات ومؤتمرات ساعد المركز على إنشائها، منذ الندوة الفكرية عن «القومية العربية والإسلام» التي صدرت في كتاب عام 1988، وتوالت بعدها الدراسات الإسلامية، ويربو عددها حالياً على الخمسين كتاباً، يتناول أحدثها «الحركات الإسلامية في الوطن العربي»، وهو دراسة موسوعية في 3823 صفحة، يتسابق التاريخ والجغرافيا في كتابة أهم فصولها وعنوانه «خريطة الحركات الإسلامية في الوطن العربي». وتكمن أهميته في «أنه كتب على وقع متغيرات متسارعة تميزت مع الربيع العربي بإعادة تشكيل المشهد الإسلامي جذرياً». وفيه استُدعي التاريخ لتقديم خلفية كاملة للحركات الإسلامية «المحلية» راصداً «تطورها ومساراتها وتحولاتها وأدوارها الراهنة، فضلاً عن تميزاتها وعلاقاتها وتحالفاتها مع القوى الأخرى». ونعرف من الموسوعة أن الجمهور العام ليس وحده يعاني من اضطراب الرأي في الأحداث المتسارعة. فالباحثون المتمرسون الذين أعدوا الدراسات أعادوا صياغتها وتعديلها على ثلاث مراحل، وفق مراجعات اللجنة المشرفة على الموسوعة، والتي دهمها «الربيع العربي» واضطرها إلى التوقف «لأن الإسلاميين كان لهم دور واضح في صناعة الربيع العربي»، وكذلك مقتل بن لادن «بعد أن كنا قد أنجزنا الفصل المتعلق بالقاعدة، فكان ضرورياً أن نعيد النظر بكل فصل القاعدة»، حسب المشرف على الموسوعة الباحث الأكاديمي اللبناني عبد الغني عماد. وتنأى أبحاث ندوة بيروت عن «الردح الإعلامي» حول الإسلاميين الذي يشارك فيه أحياناً أكاديميون معروفون. «الإخوان المسلمون وتحديات دمقرطة الدين في أوقات الاضطرابات» عنوان ورقة عبد الوهاب الأفندي، الباحث في الشؤون الإسلامية، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة «ويستمنستر» في لندن، ويقدم فيها مسحاً تاريخياً نقدياً لحركة «الإخوان». ويوضح الأفندي، وهو مؤلف كتاب «الدولة الإسلامية... من يحتاجها»، والذي صدرت طبعات عدة منه بالإنجليزية، كيف «حيّر النجاح الملحوظ للإسلاميين، وخصوصاً الإخوان، وصعودهم منذ سبعينيات القرن الماضي غير مراقب، وكانت مفاجأة حتى للإسلاميين أنفسهم». ويذكر أن «النتاج الفكري الذي صدر طوال العقود القليلة الماضية حول «الصحوة الإسلامية»، ثم حول «فشل الإسلاميين»، ثم عوداً على بدء، ضخماً ويزيد على حمل جمل». ويتناول الباحث السعودي توفيق السيف في ورقته في الندوة «تحولات الإسلام السياسي في السعودية ومستقبله»، منذ ظهوره في منتصف القرن الماضي على أيدي إسلاميين مصريين وعراقيين وسوريين، وصعوده في التسعينيات، وانحداره الحالي حد «التفارق المتزايد بين هموم التيار -وبالتالي خطابه- وبين انشغالات الجمهور وتوقعاته». والسعودية اليوم «مجتمع يعيد اكتشاف نفسه»، وقفز فيها عدد مستخدمي الإنترنت من حوالى مليون في عام 2001 إلى 16,4 مليون في منتصف عام 2013، وهذا يعني أن أكثر من نصف سكان المملكة متّصلون بشبكة المعلومات الدولية. وبلغ عدد التغريدات باللغة العربية حول مصر بين 30 يونيو حتى 17 أغسطس 2013 نحو 3,2 مليون، جاء 84.4 بالمئة منها من السعودية. و«مركز دراسات الوحدة العربية» أنشئ في بيروت عقب أسوأ سنوات هزيمة الأمة العربية، وفيها تحوّلت بيروت إلى عاصمة أطول حرب أهلية دموية عربية شهدها القرن الماضي، ولم يتوقف خلالها عن الصدور عدد واحد من المجلة الشهرية للمركز «المستقبل العربي». وصدر هذا الشهر العدد 418 منها. وينشر المركز، في العام الواحد، ما يزيد على 40 كتاباً، عدا عما ينشره من بحوث في مجلاته الفصلية: «إضافات» (في علم الاجتماع)، و«بحوث اقتصادية عربية»، و«المجلة العربية للعلوم السياسية»، والمجلة الصادرة باللغة الإنجليزية (Contemporary Arab Affairs). وبلغ عدد مطبوعاته أكثر من 820 كتاباً، بعضها في مجلدات عدة، مثل «موسوعة تاريخ العلوم العربية»، وبعضها المؤلفات الكاملة لمفكرين عرب، بينهم محمد عابد الجابري، وأحمد الشقيري، وعبد الله الطريقي، وقسطنطين زريق. وتعكس كثير من دراسات المركز حول الإسلام السياسي حكمة النخبة المفكرة العربية التي أدركت حجم هزيمة الأمة، وكالنخبة الألمانية التي لم تسقطها في العدم السياسي، أو الاقتصادي أو الأخلاقي هزيمة بلدها في حربين عالميتين. وقد تنجد حكمة العروبيين الإسلاميين وتجنبهم كارثة تغليب المصالح غير الواقعية على مصالح البلدان الوطنية، كما يحدث في سوريا حالياً، وكما حدث في العراق عقب ثورة تموز 1958. ولو أن نكسة 1967 وقعت عام 1958 ما كانت الوحدة الوطنية للعراقيين التي حققتها الثورة ستُنحر على مذبح الوحدة العربية. والبحث الآن عن الحكمة في «الربيع العربي» كأحجية ميكانيك الكم (الكوانتوم) المشهورة حول «قطة شرودينغر» المحبوسة مع قارورة سم داخل علبة ولا نعرف ما إذا كانت حية أم ميتة. فالوضع المركب للجسيمات داخل الذرة في الحال بين الحالين لا تعرف حتى الطبيعة نفسها متى سيقع ذلك. و«الربيع العربي» نفسه مثل «الكوانتوم» الذي يقول عنه عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان «يشدُّ مخيلتنا إلى الحد الأقصى، ليس كما في الروايات، حيث تتخيل أشياء لا وجود لها هناك حقاً، بل بمجرد أن تعي الأشياء التي هناك». و«المرء كثير بأخيه، ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الحق مثلما ترى له»، قال ذلك الرسول صلّى الله عليه وسلّم (البصري «أدب الدنيا والدين»). والمفارقة أن نجد لادينيين يرون الخير للدين وأهله أكثر من دينيين. وقلّما يُعرفُ أن العبارة الماركسية الشهيرة، «الدين أفيون الشعوب»، تُقتطع -على غرار «ولا تقربوا الصلاة»- من أحد أكثر التقييمات الفلسفية الإنسانية المتعاطفة مع الأديان، حيث قال كارل ماركس: «الدين ضمير عالم لا ضمير له، الدين قلب عالم لا قلب له». محمد عارف مستشار في العلوم والتكنولوجيا