المؤسسات الدينية والعلمانية في العالم العربي والإسلامي في الغالب جزء من الدولة. فالعلماء والكتاب والأساتذة والصحفيون والفنانون...إلخ موظفون في الدولة، حين لا تكون المؤسسات مستقلة، بل كانت تتبع السلطة وتبرر قراراتها. وهذا إقرار بواقع تاريخي سياسي اجتماعي، وليس حكماً على أصل الشرع الذي أعطى الاستقلال الكامل للسلطة القضائية، وعدم جواز عزل قاضي القضاة بعد تعيينه. وقد نفت القيادة السياسية في مصر الستينيات والسبعينيات على حد سواء علناً تدخلها في شؤون رجال الدين. ومع هذا لم يكن الأمر كذلك بالفعل. ففي الستينيات أصدر الأزهر فتوى ضد قاسم في العراق متهماً إياه بالإلحاد، كما أصدر فقهاء العراق فتوى مضادة ضد فقهاء مصر! وسواء أصدر رجال الدين هنا أوهناك هذه الفتوى بناء على طلب السلطة السياسية أو بمبادرتهم الخاصة، فالنتيجة واحدة، وهي أنهم يسيرون في ركاب السلطة، ويعملون على تبرير قراراتها. وقد استخدمت المؤسسات الدينية في الستينيات الدين من أجل الدفاع عن الاشتراكية. كما أدخلت المؤسسات العلمانية، مثل الجامعات والمؤسسات والجمعيات العلمية ومراكز الأبحاث الدين في برامجها التعليمية ونشاطاتها لإثبات الطابع التقدمي للإسلام وبيان الجوانب الاجتماعية فيه. فقد أقر مجمع البحوث الإسلامية وضع حد أقصى للملكية في الإسلام. وأعطى أحد الرؤساء الحق في التأميم، عندما تصبح الملكية الفردية ضد المصالح العامة بناء على عدة مبررات منها: تحريم الإسلام الملكية المطلقة، ومصادرته لأموال المعتوه والأبله ولكل من يسيء استعمال الثروة، وضرورة رد الأموال المغتصبة لأصحابها الحقيقيين وإلا تجب على الدولة مصادرتها، وحق السلطة السياسية في فرض ضرائب على الأغنياء للمصلحة العامة. ونشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية مؤلفات كثيرة للدفاع عن اشتراكية الستينيات على أسس إسلامية، كما نشر «الميثاق الوطني» في أحد أعداد سلسلة «دراسات وبحوث إسلامية» وكأنه وثيقة إسلامية أصيلة. كما نشرت عدة كتيبات تأخذ شعارات اشتراكية الستينيات عناوين لها مثل «نداء الميثاق الوطني نداء الإسلام»، و«شريعة العدل شريعة الله». كما صدرت دراسات أخرى تعرض الأفكار الإسلامية حول المساواة ووسائل محاربة الجوع، كما نشر المجلس كتباً إسلامية عن القومية العربية التي يظهر فيها الإسلام كدعامتها الأساسية. ووزعت وزارة الأوقاف على كل خطباء المساجد خطب الجمعة وموضوعاتها الاشتراكية في الإسلام، ومفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة. ونشرت سلسلتان «مكتبة الإمام»، و«زاد الخطيب» لإعطاء نماذج موحدة لخطب الجمعة حول الموضوعات الاجتماعية في الإسلام، مثل العدالة الاجتماعية والمساواة في الإسلام، وتقديس العمل في الإسلام، وحقوق العمال، والقيم الاجتماعية في الإسلام، وتحذير الدين من زيادة الاستهلاك. وأنشأ الاتحاد الاشتراكي العربي مكتباً خاصاً للشؤون الدينية للقيام بحملة دعائية حول موضوع الإسلام والاشتراكية وللهجوم على «الرجعية» وكشف استخدامها للدين لاستغلال الجماهير العربية. وعقد المكتب اجتماعات دورية مع العلماء وأئمة المساجد ومفتشيها لإعطائهم توجيهات أيديولوجية لتبليغها إلى المصلين. كما نظم المكتب عدة محاضرات وندوات حول الإسلام والاشتراكية. ونشرت المجلة الأسبوعية «الاشتراكي» التي كانت تصدر في ذلك الوقت عدة مقالات عن الدين والاشتراكية والرد على التفسير «الرجعي» للإسلام. كما تضمنت الكتيبات التي يصدرها الاتحاد العربي الاشتراكي لتثقيف أعضاء منظمة الشباب في دوراتهم التدريبية عدة فقرات حول الطابع التقدمي للإسلام مماثلة للفقرات التي وردت في «الميثاق الوطني» حول الدين والتقدم بوجه عام. وقد انضمت المؤسسات العلمانية إلى الحركة، بل ونافست المؤسسات الدينية ذاتها. فقد أدخلت الجامعات مادة «الاشتراكية العربية» ضمن مقرراتها بعناوين مختلفة، مثل «ثورة 23 يوليو»، و«القومية العربية»، و«الاشتراكية العربية»، و«المقرر القومي». وأصبحت وسيلة لتأليف كتب جامعية توزيع بالآلاف ويكسب من ورائها الأساتذة آلافاً أخرى. كما نافس أساتذة الجامعات رجال الدين، وألفوا في موضوع «الإسلام والماركسية». عمل الأساتذة والعلماء معاً لخدمة السلطة السياسية، وتناسوا خلافاتهم القديمة حول التحديث والعلمانية. وقد نشرت معظم المجلات الشهرية التي تصدرها وزارة الثقافة ووزارة الأوقاف مقالات عدة في أعداد خاصة عن «الإسلام والاشتراكية». وقد تابع كل الكتاب القيادة السياسية في الدفاع عن الاشتراكية والهجوم على خصومها. وصدرت عدة كتب دعائية بعد 1962 عن «الإسلام والاشتراكية» يكرر كل منها الآخر في تنفيذ سياسية الدولة. ولا يكاد يخلو كتاب واحد عن الاشتراكية إلا وفيه فصل عن الاشتراكية الإسلامية أو عن الأسس الاشتراكية في التراث الروحي الإسلامي. وقد كان الهدف من كل هذه الكتابات إضفاء الشرعية على عمليات التغير الاجتماعي. وقد شاركت أجهزة الإعلام في هذه الحملة. فأذيعت عدة برامج في الإذاعة والتلفزيون عن موضوع «الإسلام والاشتراكية» وخصصت الصحف اليومية في صفحاتها الدينية يوم الجمعة عدة مقالات عن العدالة الاجتماعية والمساواة في الإسلام. وكانت المناسبات الدينية، مثل العيدين ورأس السنة الهجرية وموالد آل البيت والأولياء مناسبات رائعة لمدح السلوك الاشتراكي الذي ضربه الأولياء! كما ألف الأدباء عدة مسرحيات وقصص وروايات وقصائد حول الصراع بين الأغنياء والفقراء. وشدا معظم الفنانين والفنانات بأغانٍ وطنية واجتماعية حول الاشتراكية وإنجازاتها وحقوق العمال والفلاحين. وقد لعبت المؤسسات الدينية والعلمانية في السبعينيات نفس الدور ولكن بصورة أقل مما لعبته في الستينيات، بفعل تغير القيادة السياسية. وبالتالي،فإن النظام السياسي في السبعينيات لم يكن له نفس القدر من التنظير الأيديولوجي الذي كان للاشتراكية في الستينيات. ولم يجد النظام السياسي في السبعينيات العدد الكافي من التابعين السياسيين له كما كان الحال في الستينيات. ولذلك طلب من أساتذة الجامعات رسمياً المساهمة في وضع عقيدة اشتراكية جديدة فأصدروا وثيقتين. الأولى، أصبح الدين فيها الدعامة الأساسية للأيديولوجية الجديدة في مقابل أيديولوجية الستينيات التي عبر عنها «الميثاق الوطني». كما أصبح على الأقل على مستوى الألفاظ هو المصدر الرئيسي في التشريع في النظام الاجتماعي. وقد حاولت الوثيقتان صياغة نظرية التوازن، باعتبارها العنصر الرئيسي في أيديولوجية الحزب الحاكم، أولاً حزب الوسط أو حزب مصر، وأخيراً الحزب الوطني الديمقراطي. ويقع هذا التوازن بين الفرد والمجتمع، بين القيم المادية والقيم الروحية، وأخيراً بين العلم والإيمان. وفي الوثيقة الثانية «الاشتراكية الديمقراطية» يظهر نفسه التصور القانوني للدين. إذ يسمح بقيود على الملكية تضعها الدولة من أجل المصلحة العامة. فقد اتفق جمهور الفقهاء على نظرية «الاستخلاف» التي تعني بمصطلحات العصر أن الملكية وظيفة اجتماعية. للإنسان حق الاستعمال والتصرف والاستثمار ولكن ليس له حق سوء التصرف والاستغلال أو الاحتكار. يقوم النظام الإسلامي على التكافل، ويعطي الضمان الاجتماعي لكل مؤمن. وللفقراء حق في أموال الأغنياء. وقد ظل الدفاع الديني عن التكامل الاجتماعي لفظياً دون أي أثر على عملية إصدار القرار. وكانت وظيفته مجرد إعطاء الستار الديني لسياسات اجتماعية مضادة. وقد ظهرت معتقدات الطبقة العليا في كلتا الوثيقتين. ومع ذلك، قامت أجهزة الإعلام بشن حملة دعائية تعد الشعب بالرخاء في 1980 وفي 1982 ثم في 1985 وبإنهاء الأزمة الاقتصادية كلية عام 2000. كما أصدرت بعض المؤسسات السياسية بعض التشريعات تعتمد في الظاهر على الدين كعامل اجتماعي مسكن مثل قانون العقوبات، ولم يكن الهدف منه الدفاع عن الدين بقدر إيقاف عمليات التغير الاجتماعي.