في عالمنا اليوم يبدو أن الجميع بحاجة إلى استراتيجية، فالحكومات والهيئات التابعة لها تكاد لا تخلو وثيقة من وثائقها من عبارة الاستراتيجية كسبيل للنجاح وبلوغ الأهداف، والشركات تتسابق على صياغة الخطط وبلورة الاستراتيجيات، فيما الأفراد أيضاً لجأوا إلى الاستراتيجية لتحسين حياتهم، أو حتى لخفض أوزانهم... لكن هل يدرك كل هؤلاء المتدخلين معنى الاستراتيجية الحقيقي وتطورها التاريخي؟ يتصدى للإجابة عن هذا التساؤل مؤرخ الاستراتيجية العسكرية البريطاني، لورانس فريدمان، في كتابه «الاستراتيجية... تاريخ»، والذي يسعى من خلاله لإثارة النقاش حول مفهوم الاستراتيجية بعد تنقيته من الشوائب التي علقت به على مر السنوات وشوهت معناه الحقيقي. ويبدأ الكاتب بمحاولة وضع تعريف للاستراتيجية وربطها بمجالها الأول الذي ظهرت فيه ونشأت منه متمثلاً في الجانب العسكري والرغبة في قهر العدو وتحقيق النصر، حيث تصبح الاستراتيجية وفقاً لهذا المعنى هي الاستخدام الأمثل للإمكانات والموارد المتاحة لتحقيق أفضل النتائج، في وضع يتسم بالدينامية والسيولة. وكما يعبّر الكاتب: «تهدف الاستراتيجية إلى الحصول على أكبر قدر ممكن في ظل وضع لم يكن ميزان القوة فيه يسمح بذلك، بمعنى آخر تمثل الاستراتيجية فن توليد القوة». لكن، وقبل الوصول إلى ذلك المفهوم الذي استقرت عليه الاستراتيجية لدى خبرائها الحقيقيين، قطعت أشواطاً عديدة تطورت خلالها عبر التاريخ المديد للبشرية، وكانت البداية من الأساطير اليونانية التي قسمت الاستراتيجية بين الاعتماد على القوة المحضة، كما فعل أخيل في معاركه البطولية، وبين الركون إلى الدهاء والحيلة والاعتماد عليهما في بلوغ الأهداف وتحقيق الانتصار، كما هو الحال في قصة حصان طروادة. لكن بعد مرور مئات السنوات انتقل التفكير في الاستراتيجية وقضاياها إلى الشرق، وتحديداً الصين من خلال تأملات «سون تزو» التي ضمّنها في كتابه الشهير «فن الحرب»، فرفع من خلالها قيمة الدهاء والحيلة باعتبارهما السبيل المفضل لتفادي خوض المعارك والفوز على الخصم. فالانتصار في المعارك، حسب هذا المفهوم، إنما يكمن في القيام بعكس ما كان يتوقعه العدو. ثم ينتقل الكاتب إلى إحدى الشخصيات المحورية في عصورنا الحديثة، فتوصيات ماكيافيلي ما زالت تدرس حتى اليوم، وهو صاحب فكرة الحرب النفسية التي تضرب معنويات العدو وتقوده للانهيار، لكن لا يمكن الاعتماد في نظره على المناورة كأداة وحيدة لبلوغ الأهداف، بل ينصح أميره أن يكون بدهاء الثعلب وقوة الأسد. لكن علم الاستراتيجية لم يأخذ شكله الحالي في نظر الكاتب إلا مع نهاية القرن الثامن عشر بسبب ما قدمه عصر الأنوار بمفكريه وفلاسفته من إضافات جديدة، وتأثير الحروب النابليونية على التكفير الاستراتيجي لقادة الجيوش الأوروبية، لتصبح الاستراتيجية في هذا العصر رديفاً للأهداف السياسية؛ إذ لا يكفي تحقيق النصر في المعارك والتفوق العسكري، ما لم ترافق ذلك مكاسب سياسية واضحة تُنتزع من العدو، وهو ما أشار إليه الاستراتيجي الألماني «كارل فان كلوفيتز» الذي اعتبر أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. ولعل من القضايا الأساسية التي يتعين على الاستراتيجية الانتباه إليها من وجهة نظر الكاتب هي تحقيق الانتصار الناجز، إذ لا يمكن توقع انتصارات كبيرة يخضع لها العدو، بل هناك حروب مستمرة سواء بسبب الأسلحة النووية التي تجعل من الصعب إخضاع العدو وإعلانه الاستسلام إذا كان يمتلك تلك الأسلحة، أو في حال حروب العصابات الممتدة التي لا يقتنع فيها الخصم بأنه اندحر ويتعين عليه رفع الراية البيضاء، بل يواصل القتال بطرق مختلفة مستنزفاً القوى الكبرى. وأمام هذه التحديات لم تعد الاستراتيجية هي ذلك العلم الذي يسعى إلى تحقيق أهداف وُضعت مسبقاً ويتعين وضع الخطط لبلوغها، بل هي التعامل المتواصل والمرن مع المستجدات والتطورات، فأجواء عدم اليقين التي تسود التدخلات العسكرية الكبرى وصعوبة التقيد بخطة واضحة إلى الآخر، تجعل من الاستراتيجية فن التعامل مع المجهول والتقديرات المفتوحة والمعرضة في كل وقت للتغيير. لذا بدلا من تحديد الأهداف مسبقاً كما جرت العادة، ثم الرجوع إلى الوراء لبحث كيفية بلوغها، يتعين -كما يقول الكاتب- الانطلاق بأهداف مرنة ومتحركة تتكيف طبقاً للظروف والتطورات الميدانية مع قدرة هائلة على استغلال الفرص وعدم إهدارها. زهير الكساب ----- الكتاب: الاستراتيجية... تاريخ المؤلف: لورانس فريدمان الناشر: جامعة أوكسفورد تاريخ النشر: 2013