إنها طبيعة البيروقراطية أن توسع وتراكم الأنشطة. وقد ركزت وكالة الأمن القومي، تلك المؤسسة التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية وتقوم على عادات روتينية وتكنولوجيا عفا عليها الزمن، على بقايا الاتحاد السوفييتي والدول التابعة له في شرق أوروبا، ولم تضيع الفرصة عندما وقعت هجمات 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن. فقد تدفق المال والمجندون والمهام، وأعلنت الحرب على الإرهاب. وقد أفادت الأموال، التي تدفقت على وكالات الاستخبارات الأميركية، وكالة الأمن القومي أكثر من أي خدمات أخرى تابعة للبنتاجون. ولم تتردد وكالة الأمن القومي طبعاً في تعزيز قدراتها. وتسرد أوراق تسريبات «سنودن» قصة كبريائها في خطاب مدح تلقته الوكالة في عام 2007 لتمكنها إلكترونياً من تحديد موقع قناص داخل المنطقة الخضراء في بغداد. هكذا كان الرصد العالمي في تلك الأيام. وفي مطلع شهر نوفمبر من هذا العام، نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» تفاخر الوكالة بأنه عندما زار الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الرئيس أوباما في البيت الأبيض في أبريل، وجد الرئيس أمامه نسخة تم اعتراضها سراً من النقاط التي تدور برأس الأمين العام ويود أن يطرحها للمناقشة. وخلافاً لوضعها في عام 2001، فإن وكالة الأمن القومي لديها حالياً حوالي 30- 40 ألف موظف في جميع أنحاء العالم. ونحن نعلم الآن أن الوكالة تعترض البريد الإلكتروني الخاص بالآخرين (من المفترض أن ذلك يحدث إلكترونياً، ولكن من يدري؟). ولكن بلاشك، مع ملياراتها، بإمكانها توظيف بعض اللصوص، وآخرين ممن يستطيعون خدمة قرون استشعارها العملاقة -أو قراءة بريدك الإلكتروني أو نسخ صفحات «الفيسبوك» الخاصة بك. ولكن لماذا يتكبدون كل هذا العناء؟ إنه سؤال رائع. لقد كشف «سنودن»، نظراً لزعمه بأن حريته معرضة لبعض المخاطر، كماً ضخماً من المستندات تتضمن سرداً لمهام وكالة الأمن القومي، وكذلك معلومات حول هياكلها البيروقراطية وشيفراتها الخاصة بعمليات متنوعة، إلى جانب سيول من المعلومات الأخرى العشوائية. وقد أخبرنا عن اثنين من الصروح الضخمة يتم تشييدهما بمليارات من الدولارات لم يتم الكشف عن قيمتها في أكثر المناطق فراغاً في أرض «مورمون» السرية في الغرب الأميركي. ولكن من يهتم؟ هل ترغب في أن تنفق الضرائب الخاصة بك على جمع كل الأرقام والعناوين لكل مكالمة هاتفية يتم إجراؤها وكل بريد إلكتروني يتم إرساله في الولايات المتحدة (أو أوروبا) خلال العقد المقبل؟ هذا ضرب من الجنون! من الواضح أن هذه المباني الجديدة التي تتم إقامتها هي المكان الذي ستحفظ فيه وكالة الأمن القومي بكل المعلومات التي جمعتها منذ أن ذهبت الولايات المتحدة إلى الحرب ضد بضع مئات أو ربما بضع آلاف من أعضاء الجماعات المتشددة المختبئين في المناطق النائية، التي من غير المرجح أن يقوم أحد بزيارتها إلا، للأسف، إذا كان جندياً أميركياً. وأولئك الأعداء يعيشون في الصومال أو اليمن، أو المناطق القبلية بشمال غرب باكستان، وبعض أحياء المهاجرين في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وحتى في الولايات المتحدة نفسها. ولكن لماذا يجب النظر لمثل هذا التهديد بهذه الدرجة من الجدية من قبل القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة مع تعدد وكالاتها الاستخباراتية، وجيشها وأسطولها الحربي وقواتها البحرية، وأساطيل الطائرات بدون طيار المحملة بالقنابل والتي تم وضعها تحت الخدمة الشخصية لأوباما؟ وثمة سؤال آخر يطرح نفسه: لماذا قد تفكر وكالة الأمن القومي في تركيب أجهزة في سفاراتها قادرة على اكتشاف التهديدات التي قد تحاك في الدوائر الرسمية في حكومات الدول التي تعتمد بها السفارات؟ وهذا النشاط ينطوي على خطر واضح، إذا تم اكتشافه، وهو تدمير علاقات الولايات المتحدة مع هذه الحكومة أو تلك أو تعريضها للخطر. ومن الواضح أن «سنودن» أمضى وقتاً لا بأس به في مثل هذه الظروف الخانقة عندما تم إرساله إلى جنيف للتنصت لصالح وكالة الاستخبارات المركزية. وهل تستحق المكالمات الخاصة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مثل هذه الرقابة؟ لعل من أظرف التعليقات الألمانية تلك التي كتبها هاينريش ويفينج في نهاية شهر أكتوبر في واحدة من أهم الصحف الأسبوعية الالمانية «دي تسايت» تحت عنوان «وداعاً أيها الأصدقاء». ربما لا تعتبر ألمانيا أهم حليف للولايات المتحدة، ولكنها صديق له قيمته ويستحق الحفاظ عليه. وقد بدأ بقول «إن الصداقة الألمانية- الأميركية كانت أقوى أسطورة لجمهورية ألمانيا الاتحادية. والآن، بعد قضية التنصت على المكالمات الهاتفية، فقد انتهت إلى الأبد». واستطرد قائلاً إن برامج التجسس الموجهة إلى رؤساء حكومات الدول الأجنبية الصديقة «ليست علامة على القوة ولكنها دليل على الضعف والخوف». وسرد الصفات الأميركية التي ظلت محل إعجاب الألمان بعد الحرب العالمية الثانية، قائلاً إنه إذا كان الألمان اعتادوا في تلك السنوات القول بأن ألمانيا قد تصبح مثل الولايات المتحدة خلال عقد من الآن، فهذه العبارة فقدت اليوم معناها، ولم يعد كثيرون يرغبون لبلادهم السير على نفس الطريق. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»