تلقيت دعوة كريمة من العالم الكبير الدكتور أحمد زويل لكي ألقي محاضرة في الجامعة التي تتشرف باسمه، ليس فقط باعتباره حاصلاً على جائزة «نوبل» الرفيعة، ولكن أيضاً لأنه صاحب ثورة علمية بالمعنى الإبـسَمولوجي (المعرفي) للكلمة. وهذا يعنى على وجه الدقة أن الدكتور «زويل» باكتشافاته العلمية المبهرة قد غير من الطريقة التي يضع بها المجتمع العلمي مشكلات البحث، كما أنه جدد في المناهج والأدوات التي يمكن عن طريق استخدامها حل هذه المشكلات. وكان موضوع المحاضرة «مشكلات البحث العلمي في الوطن العربي». يرد اهتمامي بهذا الموضوع إلى أنني منذ سنوات دعيت من مكتب «تلفزيون دبي» بالقاهرة لكي أشارك في ندوة تذاع على الهواء مباشرة حول مشكلات البحث العلمي في المجتمع العربي. وقد طرحت في هذه الندوة أسئلة متعددة تتعلق بضعف العائد من البحث العلمي، ومشكلات الباحثين العلميين، ونقص التمويل، وانقطاع الصلة بين البحث العلمي والتنمية، ووضع الجامعات العربية ومراكز الأبحاث، وهجرة العقول العلمية العربية إلى الخارج، وأخيراً الرؤى الخاصة بالمستقبل. وتمت الندوة في إطار برنامج اسمه «رؤية» يقدمه الدكتور «محمد المطوع»، وشارك فيها من دبي الدكتور «سليمان الجاسم»، ومن باريس الدكتور برهان غليون، ومن واشنطن الدكتور «جورج باروتي» ومن القاهرة كاتب المقال. وقد حفلت الندوة بآراء متعددة تركز على تشخيص الموقف الراهن للبحث العلمي، كما زخرت أيضاً بخلافات في الرأي بين المشاركين سواء حول الحاضر أو فيما يتعلق بآفاق المستقبل. وكانت هذه الندوة بداية اهتمامي بالدراسة المنهجية لمشكلات البحث العلمي في الوطن العربي، وكتبت دراسة مطولة في الموضوع ضمنتها كتابي «الزمن العربي والمستقبل العالمي» الذي نشرته «دار نهضة مصر» عام 2009. والواقع أنه سبق هذه الدراسة اهتمامي بمشكلات العلم منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي حين عينت باحثاً مساعداً بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1957. وفي هذا المركز العتيد الذى أسسه أستاذي الراحل الدكتور «أحمد خليفة» تلقيت الدروس الأولى في مناهج البحث العلمي، بالإضافة إلى محاضرات متعمقة في العلوم الاجتماعية، وكان الغرض منها أن يكتسب الباحثون الشباب نظرة موسوعية للعلم الاجتماعي قبل أن يتخصصوا في فرع علمي معين. وقد آثرت في بداية محاضرتي التي حضرها أساتذة وطلبة جامعة «زويل» أن أقدم لهم الإطار النظري الذي على أساسه سأناقش مشكلات البحث العلمي في الوطن العربي. وهذا الإطار يتكون من ثلاثة مداخل أساسية، هي مدخل سوسيولوجيا العلم (الذي يدرس العلم باعتباره نسقاً يتأثر بالانساق السياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمع). ومدخل السياسة العلمية وأخيراً مدخل المشروع النهضوي. ويمكن القول إن سوسيولوجيا العلم لا تركز فقط على علاقته بالنسق السياسي، ولكنه يهتم أيضاً بالنسق الاقتصادي، وتركز على شكل النظام الاقتصادي والموارد الطبيعية والميزانيات المتاحة للبحث العلمي. أما النسق الثقافي فيركز- بين ما يركز عليه- على القيم الاجتماعية السائدة في المجتمع، ووضع العلم في سلّم القيم، ومدى سيادة التفكير العلمي في المجتمع، وضروب الإبداع والتجديد وأنماط الحرية الأكاديمية وحرية التفكير. ويدخل في بحوث هذا العلم أيضاً التنظيم الاجتماعي الأكاديمي، والتدرج العلمي بين أعضائه، ونوعية المدارس العلمية السائدة والصراعات بينها، وضروب التواصل العلمي مع بنية ومنظمات العلم العالمية. وإذا كان مدخل سوسيولوجيا العلم هو الذي يساعدنا في الإجابة على أسئلة مهمة من أبرزها ضعف الإنتاج العلمي للباحثين العرب كماً وكيفاً، وانقطاع الصلة بين اتخاذ القرار والبحث العلمي، والاعتماد أساساً على نقل التكنولوجيا من الدول المتقدمة، وهجرة العقول العلمية، فإن هناك مدخلاً أساسياً آخر هو مدخل السياسة العلمية. والسياسة العلمية أصبحت الآن مبحثاً علمياً مستقلاً له خبراؤه ومنظروه. وهي تتعلق أساساً باستراتيجية وتكتيك البحث العلمي في بلد معين، بمعنى أنها هي التي تحدد أهداف البحث العلمي، ووسائل تحقيق هذه الأهداف، وأهم من ذلك كله تحديد أولويات البحث العلمي، وإقامة التوازن المطلوب بين البحوث الأساسية والبحوث التطبيقية، وهي التي تضع خطة إنشاء المراكز العلمية، وتحدد نوعية تأهيل الباحثين وتدريبهم، وتعقد الصلة بينهم وبين صانع القرار السياسي من ناحية، والقطاعات الصناعية والإنتاجية من ناحية أخرى. ومن هنا فحين الحديث عن الوضع الراهن للبحث العلمي في المجتمع العربي، فلابد أولاً من أن نسأل أنفسنا: هل هناك سياسة علمية في كل بلد عربي من البلاد الأساسية؟ وهل هناك سياسة علمية عربية قومية؟ إن الإجابة على هذين السؤالين يمكن أن تساعدنا في تشخيص الأوضاع السلبية للبحث العلمي العربي في الوقت الراهن. فكثير من البلاد العربية، حتى من تلك البلاد التي دخلت منذ عشرات السنين مضمار البحث العلمي، ليس لديها سياسة علمية واضحة، ومن أبرز هذه البلاد مصر. ولعل مدينة «زويل» التي هي المشروع القومى لمصر تكون البداية لإرساء قواعد السياسة العلمية. أما السياسة العلمية القومية فهي غائبة عن الساحة، نتيجة ضعف البنى التحتية للبحث العلمي في البلاد العربية، والافتقار إلى الإرادة السياسية في التنسيق العلمي. وليس هذا غريباً في بيئة إقليمية تفتقر كثيراً إلى التنسيق السياسي. ونأتي أخيراً إلى مدخل المشروع النهضوي. ونقصد بذلك على وجه التحديد مدى الارتباط بين العلم والتنمية. ونعرف من واقع دراسات تاريخ العلوم التي تمت بشكل مقارن، أن لحظات النهوض الوطني والقومي، كانت ترتبط عادة بنمو البحث العلمي. ومن هنا يمكن القول إنه في البلاد التي صاغت لنفسها مشروعاً نهضوياً، فإن العلم والبحث العلمي يحتلان في العادة مكانة علياً. لأن المشروع النهضوي يهدف عادة إلى تحقيق التنمية البشرية الشاملة، مع التركيز على قوة الدولة بالمعنى الشامل الكامل، ونعنى عسكرياً وصناعياً وثقافياً. ولو تأملنا تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، لوجدنا أن المشروع النهضوي الذي صاغه محمد على مؤسس مصر الحديثة، كان يركز تركيزاً واضحاً على النهوض بالتعليم، والبحث العلمي، والتكنولوجيا، بمعايير زمانه. فقد أرسل البعثات العلمية إلى أوروبا للتخصص في العلوم العسكرية وغيرها، مع التركيز على التكنولوجيا، والجوانب التطبيقية، وإنشاء المدارس والكليات العلمية، واهتم بالتعليم العام، والترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، وهى المهمة التي نهض بها رائد التنوير العربي «رفاعة الطهطاوي»، بالإضافة إلى جهوده العديدة الأخرى. وكما أشرنا من قبل، فإن المشروع النهضوي الذي صاغته ثورة يوليو 1952، كان من بين مكوناته الأساسية تطوير وتدعيم ودفع البحث العلمي في مختلف المجالات الأساسية والتطبيقية، في ضوء سياسة علمية بصيرة، لم يتح لها للأسف أن تستمر، نتيجة ظروف سياسية خارجية وداخلية، ليس هنا مقام الإضافة فيها، مما يؤكد كما قلنا العلاقة الوثيقة بين النسق السياسي والبحث العلمي. غير أنه باَلإضافة إلى هذه المداخل هناك مشكلات أخرى متعددة تحتاج إلى مناقشات مستقبلية.