قبل مدة قصيرة، عُرضت على المحكمة العليا في نيوزيلندا قضية غريبة ومثيرة، كان المدعي فيها يدعى «إيوهان تايتيوتا»، وهو مواطن من «جزيرة كيريباتي»، وكان قد طلب حق اللجوء إلى نيوزيلندا، ولكن ما هي حجته للتقدم بهذا الطلب؟ إنه التغير المناخي وارتفاع مستوى سطح البحر حتى أصبحت الحياة في الجزيرة التي يعيش فيها لا تطاق، وقال «تايتيوتا» دفاعاً عن طلبه:«لم يعد هناك مستقبل بالنسبة لنا لو عدنا إلى كيريباتي». وكنت واحداً من الذين يترددون بكثرة على «كيريباتي»، وهي دولة صغيرة ومنعزلة تشكل أرخبيلاً يتألف من 33 جزيرة متباعدة تنتشر على امتداد خط الاستواء في أعالي المحيط الهادي على مساحة واسعة تعادل ثلثي مساحة الولايات المتحدة. وعندما كنت أعيش هناك أواخر عقد التسعينيات، بدأ المعمرون من سكان الجزيرة يلاحظون بروز ظاهرة جديدة غير مألوفة. فلقد كان المدّ البحري الربيعي الذي يسمونه أحياناً «مدّ الملك»، قد بدأ يتجاوز علاماته المثبتة على الشاطئ ليغمر البيوت القديمة وحظائر الحيوانات والطرق التي تربط بين المناطق المختلفة للجزيرة الكبرى، حيث يعيش معظم سكان الدولة الذين يبلغ عددهم 100 ألف نسمة. ومن أجل مقاومة هذا المدّ البحري المدمّر، بدأت العائلات ببناء الجدران البحرية المصنوعة من رواسب الشعاب المرجانية على أمل التخفيف من الضرر الناتج عن ارتفاع مستوى سطح مياه المحيط. وكان الظن السائد لدى السكان أن هذا المدّ العالي لم يكن أكثر من تغيّر مؤقت سبق لهم أن شاهدوا شبيهاً به. وخلال أكثر من 1000 عام، كانت الأجيال المتتابعة من سكان هذا الأرخبيل يتعرضون لحالات المدّ البحري الناتجة عن ثوران البراكين القاعيّة النشيطة، إلا أنها لم تكن تتسبب إلا في ارتفاع مؤقت لمستوى سطح المياه وبنحو 60 سنتمتراً ثم لا تلبث الأمور وأن تعود إلى ما كانت عليه. وما كانوا يشعرون أبداً أنهم مهددون من مياه المحيط. وقبل فترة وجيزة، قمت بزيارة «كيريباتي» فصُدمت من هول التغيّرات التي وقعت هناك. فلقد أصبحت هذه الجدران البحرية تبدو وكأنها بقايا لحصون أثرية قديمة أصابها الدمار قبل وقت طويل. وأصبحت أشجار جوز الهند الباسقة المنتشرة على طول الشاطئ، والتي تعد مصدراً أساسياً لغذاء السكان الذين يشربون عصيرها مع فطور الصباح ويستخرجون منها اللبّ الأبيض الذي يشكل تصديره دخلهم الأساسي، وهي يابسة لم تعد فيها مظاهر الحياة. وتسربت المياه المحيطية المالحة إلى المياه الجوفية والينابيع حتى باتت غير صالحة لري النباتات. وفي بعض الجزر الصغيرة، مثل جزيرة «أبايانج»، اندثرت قرى بأكملها بعد أن غمرتها مياه المحيط، وكل ما بقي منها بعض السقوف المحطمة للبيوت التي تبرز أطرافها العليا من فوق مستوى سطح الماء. وهذه الكوارث ليست بسبب عاصفة عاتية عابرة، بل إنه ارتفاع منتظم ودائم وبطيء للمد البحري الذي يضرب هذه الجزر بعنف مرتين كل يوم. وكان ردّ فعل حكومة كيريباتي قد اقتصر على شراء أراضٍ في جزيرة «فانوا ليفو» التابعة لجزر «فيجي» القريبة حتى يتمكن السكان المتضررون من زراعتها والارتزاق منها. وحتى هذه الجزيرة التي لجأوا إليها، بدأت بدورها تغرق تحت مياه الأمواج العاتية التي يأتي بها المدّ المحيطي. وقال رئيس دولة كيريباتي «أنوت تونج» في وصفه لهذه الكوارث التي حلّت ببلاده:«لم يعد أمامنا من خيار آخر. وعلى شعبنا أن يرحل بعد أن داهمت مياه المد المحيطي البيوت والقرى». وقالت «هيئة الدعم الحكومي للتغير المناخي» التابعة للأمم المتحدة في تقرير نشر في شهر سبتمبر الماضي إن التغير المناخي غير محدد بمقاييس ثابتة ومن المتوقع أن يرتفع مستوى سطح البحار بنحو متر كامل بحلول عام 2100. ويعتقد العلماء بأن سبب ارتفاع سطح البحار يعود بنسبة 95 بالمئة للنشاطات البشرية والانبعاثات الغازية الناتجة عن تلك النشاطات. وفي تقرير تسرّب إلى وكالات الأنباء يوم الجمعة الماضي، قالت الهيئة المذكورة إنه نتيجة للتغير المناخي، يمكننا أن نتوقع انخفاضاً في إنتاج الغذاء بنسبة 2 بالمئة في كل عقد حتى نهاية القرن الحالي بالرغم من الزيادة المتنامية في الطلب. وفي هذه الأثناء، يتجاوز إطلاق الغازات المسببة للتغير المناخي في الصين ثلاثة أمثال المستوى الخطير الذي حددته المنظمات الدولية المتخصصة. وفي سنغافورة، تعاني المدينة من سحب الدخان الكثيف الذي ينبعث من المزارع الإندونيسية القريبة بسبب حرق الأعشاب استعداداً لإعادة تحضير الحقول للزراعة حتى أصبحت إندونيسيا ثالث دولة في العالم في إطلاق الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري. ونحن هنا في الولايات المتحدة لا نهتم كثيراً بالتفكير في التغير المناخي وارتفاع مستوى سطح البحار، ولا ننظر إلى الكوارث التي تحلّ بنا كإعصاري كاترينا وساندي إلا باعتبارها أحداثاً استثنائية عابرة، ولا نعلق على الموجات الحرارية غير المسبوقة والجفاف المرافق لها إلا باعتبارها ظواهر سبق أن حدثت من قبل. ولكن، لننظر إلى تلك العوالم البعيدة مثل كيريباتي وتوفالو وجزر مارشال والمالديف، والتي بدأت تشهد نهايتها. وقريباً جداً، سوف نرى الملايين من أمثال اللاجئ الهارب تايتيوتا وهم هائمون على وجوههم بحثاً عن وطن جديد يأويهم بعد أن يكون وطنهم الأصلي قد غاص برمته تحت مياه المحيط. مارتن تروست مستشار سابق في البنك الدولي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم .سي.تي انترناشونال»