اهتمت مراكز البحث الإسرائيلية بدراسة «الربيع العربي»، فحللت بواعثه، ورصدت تداعياته، واستشرفت انعكاساته على إسرائيل وأمنها «القومي»، وعلى البيئة الاستراتيجية لصراع الشرق الأوسط، كما قامت بصياغة التوصيات لصانعي القرار الإسرائيلي بشأن الاستراتيجيات التي يتوجب تبنيها لتقليص التداعيات السلبية لـ«الربيع العربي» على إسرائيل. وفي الكتاب الذي نعرضه هنا، وعنوانه «العقل الاستراتيجي الإسرائيلي... قراءة في الثورات العربية واستشراف لمآلاتها»، يتفحص مؤلفه، الباحث الفلسطيني في الشأن الإسرائيلي صالح النعامي، نتاج مراكز البحث الإسرائيلية الرائدة، من أبحاث ودراسات بشأن ثورات «الربيع العربي»، مُظهراً الكيفية التي قرأ بها العقل الاستراتيجي الإسرائيلي تلك الثورات. وقد عُني بنتاج المراكز الأكثر نفوذاً، مثل «مركز أبحاث الأمن القومي» التابع لجامعة تل أبيب، والذي يرأسه الجنرال المتقاعد «عاموس يادلين»، و«مركز هرتسليا متعدد الاتجاهات»، برئاسة الجنرال المتقاعد الدكتور داني روتشيلد، و«مركز بيجن -السادات للدراسات الاستراتيجية»، التابع لجامعة «بار إيلان»، والذي يرأسه البروفيسور إفرايم عنبار، و«مركز القدس لدراسات المجتمع والدولة»، الذي يرأسه مندوب إسرائيل الأسبق في الأمم المتحدة «دوري غولد». وتحت عنوان «مصر... وتداعيات انهيار الشراكة الاستراتيجية»، يبّين النعامي أن الثورة المصرية ونتائجها شغلت مراكز البحث الاستراتيجي كثيراً في إسرائيل، وذلك انطلاقاً من افتراض مفاده أن تلك الثورة ستكون لها انعكاسات بالغة الخطورة على البيئة الاستراتيجية للدولة العبرية، قد تفضي إلى مراكمة مخاطر وجودية عليها. وقد ذهبت استخلاصات الباحثين الإسرائيليين حول الثورة المصرية إلى أنها تمثل مصدر خطر استراتيجي، كونها تهدد مصير معاهدة «كامب ديفيد»، والشراكة الاستراتيجية مع إسرائيل كما أرساها نظام مبارك. وفي هذا الخصوص قامت عدة مراكز بحث إسرائيلية بصياغة توصيات موجهة لدوائر صنع القرار تتعلق بكيفية التعامل مع تجربة «الإخوان» في حكم مصر ومع قادة الجيش المصري. وفيما يتعلق بسوريا، يشرح المؤلف كيف تباينت تقديرات الباحثين الإسرائيليين بشأن مآلات الثورة السورية وتأثيراتها على الدولة العبرية، حيث نحت هذه التقديرات في ثلاثة اتجاهات رئيسية، فهناك منهم من رأى في سقوط نظام الأسد مصلحة عليا لإسرائيل، ومن رآه تطوراً يخدم المصلحة الإسرائيلية (وإن كانت ستترتب عليه مؤقتاً تداعيات سلبية)، علاوة على من رأى في بقاء نظام الأسد مصلحة إسرائيلية عليا. بيد أن أغلب الباحثين الإسرائيليين انتهوا إلى أن ذهاب الأسد سيفجر مشاكل أمنية بالغة التعقيد لإسرائيل، وأن الثورة السورية أزالت من جدول الأعمال الإسرائيلية قضية التسوية مع دمشق. وحول «المفاوضات ومواجهة المقاومة الفلسطينية في ظل الربيع العربي»، يبرز الكتاب كيف حاول الباحثون الإسرائيليون استشراف تأثير الثورات العربية على مستقبل مشاريع تسوية الصراع، والسلوك الإسرائيلي حيال المقاومة الفلسطينية، والانقسام الفلسطيني. وبهذا الخصوص فهم يؤكدون على نقطتين: تراجع فرص التوصل لتسوية سياسية للصراع، وتقلص قدرة إسرائيل على توجيه ضربات مميتة للمقاومة الفلسطينية. أما في مسألة «الأردن وخطر تفجر الجبهة الشرقية»، فيرى الباحثون الإسرائيليون أن حدوث أي قلاقل أو اضطرابات في الأردن يحمل في طياته مخاطر استراتيجية جمة لإسرائيل، ربما تفجر الجبهة الشرقية وتلغي المنطقة العازلة التي ظل الأردن يؤمّنها. واللافت في هذه الأدبيات الإسرائيلية رفضها قطعياً الحكم الذي راج في أعقاب الثورات العربية، من أن «القاعدة» وشركاءها من الأطراف الخاسرة في «الربيع العربي»، حيث يحذر الباحثون الإسرائيليون من تعاظم أنشطة «القاعدة»، بما يزيد الأعباء على كاهل «الموساد» الذي ينوء بملفات كبيرة، على رأسها البرنامج النووي الإيراني. وعن تأثيرات «الربيع العربي» على دور الولايات المتحدة في المنطقة، يجمع الباحثون الإسرائيليون على تراجع مكانة أميركا وضعف دورها في الشرق الأوسط، مما سيزيد عزلة إسرائيل الإقليمية ويمس بشكل جذري قوة ردعها. وحول تأثير «الربيع العربي» على العلاقات التركية الإسرائيلية، يذكر الكاتب أن الباحثين الإسرائيليين اعتبروا تركيا أحد الأطراف الرابحة من الثورات العربية، لكنهم يحثون على مواصلة السعي لتحسين العلاقات معها، لعلّ متغيرات أخرى تفضي إلى شراكة مصالح بين الجانبين. وعلى العكس من ذلك يرون أن إيران كانت أحد الخاسرين من «الربيع العربي»، وأن فرص التقارب بينها وبين الدول العربية قد تقلصت إلى حد كبير بسبب موقفها من الثورة السورية. محمد ولد المنى ------- الكتاب: العقل الاستراتيجي الإسرائيلي المؤلف: صالح نعمان الناشر: الدار العربية للعلوم- ناشرون تاريخ النشر: 2013