قال هوشيار زيباري إنه يخشى أن تتحول الموصل والأنبار إلى أفغانستان ثانية! ولمن لا يعرف زيباري فهو وزير الخارجية في حكومة المالكي بالعراق، وهو من فريق طالباني في الحكومة العراقية. وقد غاب طالباني عن البلاد بسبب المرض لأكثر من عامين، لذلك ضعُف فريقه ليس في حكومة العراق الاتحادية فقط؛ بل وفي المنطقة الكردية أيضاً. وفي الانتخابات الأخيرة بالإقليم خسر فريق طالباني لصالح المعارضة المنشقة عن حزبه. ولمن لا يعرف أيضاً فإنّ فريق طالباني أقرب في الأصل للمالكي والحاكمين ببغداد المتنافسين على الولاء لطهران. بينما كان البارزاني يراهن على تركيا. ومن الطبيعي وقد ازداد فريق الطالباني ضعفاً أن تزداد تبعيتُهُ للفريق الذي يعمل معه. لذلك فقد تطوّر موقف زيباري من داعٍ إلى الحياد والمصالحة في الأزمة السورية، إلى داعمٍ للأسد وراغب في إشراك الميليشيات الكردية في نصرته على الحدود، تماماً مثل وظائف فصائل أبي الفضل العباس و«حزب الله» المؤتمرة بأمر إيران. لماذا هذا الاستطراد الطويل عن زيباري؟ لأنه مثل سائر العاملين ضمن «مشروع» المقاومة والممانعة، ينتقل بسرعة من «التحزب» للمشروع، إلى اتهام العرب والسنّة بالعنف والإرهاب، وهو محتاج لذلك مثل حاجة وزير الخارجية اللبناني، ووزير الخارجية السوري، أو يشكّ الجنرال سليماني في ولائه وولائهم! إنّ المفروض أنّ وزير خارجية أي بلد يحرص على سمعة البلد والحكومة التي يعمل ضمنها حتى لو كان كردياً يريد الدولة القومية المنفصلة مبدئياً. بيد أنّ هذا المنطق هو منطق الناس العاديين الذين يشعرون بالمشاعر الإنسانية المألوفة، ولهم الرغبات المألوفة، وليس هذا هو الحال في حالات زيباري وعدنان منصور ووليد المعلِّم وأشباههم. إذ يقع هؤلاء في خواتيم المرحلة الماضية أو التي توشك أن تنقضي بانقضاء نجاد والمالكي والأسد وطالباني، مرحلة المسيطرين بالقمع وسطوة الأقليات، ونُصرة الأميركيين. وهذا الوعي بالنهاية موجود لدى الأذكياء منهم، وبينهم زيباري، لكنه إن اعترف بذلك ضاع قبل الأوان. ولذلك أَرْضِ سادتك بهذه الطريقة، والتي تُرضي الإيرانيين والأميركيين، ولا تُغضب إسرائيل! فالإسرائيليون والإيرانيون والأميركيون والمالكيون والأسديون يستطيعون الإثابة والمعاقبة، أما العرب والسنّة المساكين الواقعون بين فِرَق القتل والفتك الثلاثة، فمن أين لهم الوقت والقدرة على الإثابة والمعاقبة؟ العرب بالعراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن، واقعون بين قتلة إيران، وقتلة «القاعدة» الذين صاروا يعملون لإيران أيضاً، وأخيراً قتلة الأميركيين والروس وإسرائيل. أمّا سائر الآخرين الذين يعملون مع الفِرق الثلاث القاتلة فمن المنضمّين والمستلحَقين والمرتزقة الذين يكثرون في أزمنة الانقسام والضعف لدى الأمة. وهؤلاء عملهم التطبيل والتزمير لسادتهم الحاليين، لتبرير ما لا يبرَّر لأنفسهم ولسادتهم. لقد بدأ هؤلاء يقولون: هذا «مشروعنا» فأين مشروعكم؟ فهم يعتبرون صمود عرب الخليج وتصديهم للتغييب والاستنزاف تمرداً، ويقولون: وماذا بعد؟ ليس لديهم بالطبع مشروع من أي نوع، وإنما هي هجمات قاتلة لمنع عودة العرب للحضور. وما عادوا بالطبع يستطيعون اعتبار أنفسهم الطليعة المقاتلة لا للأميركيين ولا لإسرائيل. فهم في الداخل يشرذمون المجتمعات ويضربون الدول للاحتفاظ بحكم الأقليات في مواجهة الكثرة العربية الثائرة. وهم في الخارج ومعه مستميتون في إرضاء أميركا والروس لحماية مكاسبهم من الزمن المنقضي، زمن الغزو الأميركي والإسرائيلي والإيراني. كما أنهم مستميتون في صون الحاضر والمستقبل من خلال إعطاء الأميركيين الكيماوي والنووي، واستعادة توظيفهم في محاربة الإرهابيين والتكفيريين السُنّة. حكمونا أولا باعتبارهم طلائع ثورية ونحن رجعيون خاضعون لأميركا. ثم حكمونا ثانياً باعتبارهم أكثريةً في العراق، أو شعباً منفصلا عن العرب ويريد الحصول على حقه في تقرير المصير. إنما عندما قال السوريون واللبنانيون والأردنيون والفلسطينيون والمصريون والعراقيون: لكننا نحن العرب نشكّل 90 في المئة من مجموع العرب، و80 في المئة من الشعب السوري، طلعوا علينا بمسألة «القاعدة» والتكفيريين، وبذلك لا نكون مؤهَّلين لتولّي السلطة، ليس لأننا غير أكثريين، بل لأننا أكثريون بالذات، وخيرٌ لأميركا وروسيا وإسرائيل التعامُلُ مع «الأقليات» المحبة للإمبريالية الجميلة، من التعامُل مع الأكثريات القاتمة والعدائية! ليست هناك أعاجيب فيما يريده العرب الآن، بل ومنذ عقود: العودة لإدارة شأنهم العام في حكومات صالحة وممثِّلة لحاجات الناس ومطامحهم. ومن خلال الحكم الصالح وبالتوازي معه ينهض العرب في تكتُّل بالجامعة أو بغيرها يعيد لهم موقعهم الاستراتيجي، وحدودهم السيادية التي جرى اختراقُها من كل ناحية. وعندما يحصل ذلك، وهو يحصل الآن بالدم والدموع والخراب، يمكن للأقليات أن تتحدث عن الحقوق والضمانات التي تطالب بها الآن. لكنه الآن حديث مدخول لأنهم يتحدثون عن حقوق ليست بأيدي الأكثريات. نحن نطالب بالمواطنة التي ما حصل عليها أحد منا ولا منهم منذ حكَمَنَا وحكَمَكُمُ العسكريون الوراثيون الطائفيون أحباب الروس والأميركيين وإسرائيل والإيرانيين. سمعتُ قبل أيام زعيماً سياسياً لبنانياً يتحدث عن «التكفيريين» الذين قال إنه يخافهم على نفسه وأبناء طائفته، ويريد من «المسلمين المعتدلين» أن يطمئنوه! وقلتُ له: إنك حليف مستمتعٌ بالعمل مع الإيرانيين والأسديين الذين يقتلون «المعتدلين» الذين تطالبهم بإنصافك في لبنان وسوريا والعراق. ثم أين هم هؤلاء القتلة الذين تخشاهم؟ ما عرفْنا عنهم غير ما قاله «نصرالله» تبريراً للقتال في سوريا. وما حصل في بعض القرى المسيحية بسوريا مخطَّط له، ومع ذلك فقد استنكره المقاتلون قبل غيرهم. ومطالبتك الحماية من المتطرفين هي تبرير لتحالفك مع القتَلة الذين قتلوا أكثر من مائة ألف من الشعب السوري، وهجّروا ثلث ذلك الشعب بالداخل والخارج، إنما الأمر مثلما قال الشاعر: يرضى القتيل وليس يرضى القاتل! إنّ لدينا الكثير مما نخشاه ونخشى عليه. بيد أنّ المخاوف لا تصنع الشعوب الحرة ولا تُنقذ الأُمم. ثم ماذا نفعنا الخوفُ من قبل؟ لقد دفع كثيراً من شبابنا للتمرد على الذل بطرائق غير مُلائمة بحيث صار الإسلام مشكلةً عالميةً، يستطيع من خلال استغلالها زيباري وغيره تعييرنا بالتطرف والقتل. لكنهم -والحق يقال- فاقوا «القاعدة» في القتل والفتك، ثم تعاونوا مع الأميركيين والإسرائيليين والروس وغيرهم على اختراق «القاعدة» والمتطرفين الآخرين وتحويلهم ضد حركات التغيير العربية في تونس ومصر وسوريا واليمن! وكنتُ أعتقد أنّ الخروجَ من التطرف وأفكاره وممارساته إنما يتم بالتنوير الفكري والديني. لكني أرى الآن أنّ العلاجَ الشافي لهذا الداء يكون بالدولة القوية التي تحفظ الحقوق وتصونها، حقوق الأفراد، وحقّ الأمة؛ بحيث لا تشعر الكثرة الكاثرة من شباننا أنها بحاجة للنضال المنفرد وتحصيل الحقوق التي عجز عنها الآخرون! نعم، لا يستطيع الشاب الحسّاس والمتدين أن يتحمل مشاهد القتل والدمار في البلاد العربية، والذي قام به الإسرائيليون والأميركيون، ويقوم به اليوم معهم وبدونهم أتباع إيران في ديارنا. إنّ هذه المشكلة مثل سائر المشاكل التي نعاني منها لا تحلُّها إلا الدول القوية التي تحتضن قلق الناس ومخاوفهم وآمالهم. والمطلوب والمُرادُ السير على هذا الطريق، طريق بناء الدول التي تحفظ تماسك المجتمعات، وتمنع الغزوات والاختراقات. هذا هو المشروع الذي لا عاصمَ ولا مُنقذ غيره، والذي نحن ماضون باتجاهه رغم المصاعب والعقبات والانسدادات.