ما زالت صفحات مِن تاريخ الحركة الإسلامية غير مدونة، والحركات السياسية والحزبية المعاصرة على العموم، وهي صفحات مهمة تفيد الباحثين في هذا المجال. فالآراء والأفكار عادة تبنى على ما سُجل مِن حوادث، وبعد قراءتي لكتاب الشَّيخ العِراقي معن شناع العجلي، أطال الله بعمره (ناهز التسعين عاماً) قلت لنفسي: كم مِن التاريخ غُيب في صدور الرجال، ومنهم مَن رحلوا؟ ففي هذا الكتاب صفحة من اللقاء الحركي السني والشيعي، يوم كان نشطاء تلك الحركات، في الخمسينيات من القرن المنصرم، يستعجلون الزمن لأخذ السُّلطة شراكة، من إيران الشيعية إلى مصر السنية. كنتُ كتبتُ مقالاً في «الاتحاد» عنوانه «عندما رشّح الإخوان شيعياً لرئاسة حزبهم» (الأربعاء 7 نوفمبر 2012)، وكان الراوية طالب الرفاعي والمُصادق عليها الشَّيخ معن العجلي، والأول أحد أبرز مؤسسي «حزب الدعوة الإسلامية» (يوليو 1959)، والثاني أحد نشطاء «الإخوان المسلمين» سابقاً. ولا أعيد ما جاء في المقال، لكني ذكرتُ به لأنه حدث كاد يغيب لولا تدوين شهادة الرجلين. كان اندفاعي حينها لتصديق هذه المعلومة من الوسيط الشيخ معن العجلي كي أرفعها إثباتاً؛ لأن التاريخ البعيد والقريب ليس مثلما تتصورون عزل وحجر وخصام طائفي. وبغض النَّظر عن رأي المعارض للإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، ما صدق عليه وسعى إليه العجلي (السُّني) في أن يكون الرِّفاعي (الشيعي) رئيساً لحزب «الإخوان»، السني بطبيعة الحال، وإن كان الغرض السياسي والحزبي حاضراً، أجدها بادرة تبرهن أن ما بين الطائفتين، بالعراق على وجه الخصوص، لا يعبر عن حقيقته ما يحصل في هذه الأيام، هناك تزوير وتشويه لحقيقة العاطفة. لقد أفادنا العجلي نفسه بفصل آخر من التاريخ الديني السياسي، أراه يُكتب لأول مرة. فعندما تقرأ تاريخ «الإخوان» لا تعثر عليه، وربما فيه حراجة لهم هذه الأيام، لكن شخصاً مثل العجلي لا يتحرّج من سرد التاريخ، فالعراق يجري في عروقه، وعاش في منطقة أهّلته لأن يكون قريباً من المشارب كافة، فكان ما يهمه، في الأيام الخوالي العروبة أولا، بشيعيتها وسنيتها. هاتفته فقال لي: أرسلت لك كتاباً «ستستأنس به». وبالفعل وجدت في كتاب «الفكر الصحيح في الكلام الصريح»، وهو طبعة خاصة، صفحةً من تاريخ العلاقة بين الحراك الثوري الشيعي الإيراني والحراك «الإخواني» المصري وبقية الفروع. إنه قصة الصلات بـ«مجتبيى نواب صفوي» (أُعدم 1955)، الذي حسب ما قرأت عنه، أنه لو بقي على قيد الحياة لربما لا يكون الخميني (ت 1989) في الموقع الذي عرفناه. و«صفوي» صاحب عمامة سوداء أيضاً (من السادة)، وعالم دين، ومفوه في الخطاب، عربياً وفارسياً، وجريء جداً في مواقفه. أسس «فدائيان إسلام» (1945). والعنوان الذي اختاره العجلي للفصل الخاص به، «محطم العرش البهلوي»، يثير لديك الفضول في البحث عن هذا الرجل. كان «صفوي» قد أنشأ منظمته التي ستصنف في مفاهيم هذه الأيام بالإرهابية، لأنها تعتمد الاغتيالات، وتُذكر بالنَّزاريين جماعة حسن الصبَّاح (ت 518 هـ)، التي نالت خناجرها العروش كافة، الفاطمي والعباسي والسُّلجوقي والأيوبي، لكن مئتي سنة من غرس الخناجر في النحور وظلوا مِن سكنة القلاع ذات الأنفاق السِّرية، لم يشيدوا نظاماً ولم يروا نوراً. ومع هذا فحركة «فدائيان إسلام»، لم تكن حركة عابرة في تاريخ إيران المعاصر. زار صفوي القاهرة (1954)، والتقى هناك بسيد قطب، وأُقيم له حفل خطابي في جامعة القاهرة، وطالب من هناك بإقامة النظام الإسلامي، وقال: «التَّعاليم الإسلامية هي وحدها قادرة على إنقاذ البشرية»، وهو ما عبّر عنه الإسلاميون عامة و«الإخوان» خاصة، فقالوا «الإسلام هو الحل». بعدها وصل صفوي إلى بغداد، وهذا لب كلمتنا هذه. يقول العجلي كشاهد عيان: «ما راعني في يوم من الأيام، عام 1954، مفاجأة إذ كنت في فندق شعبي واقع على شط دجلة... إلا والمرحوم محمد محمود الصَّواف (المراقب العام لـ«لإخوان المسلمين») يناديني بصوت جهير، وأنا قاعد مكاني من الفندق. يا فلان يا فلان، تعال تعال سلم على قائد فدائي الإسلام، هذا هو المجتبى نواب صفوي». ويضيف: «أخذ صفوي يهتف باكياً داخل الغرفة: تحيى مصر لكن بالقرآن! بعدها ألقى الصواف كلمة الترحيب به وهو (صفوي) غائب عما حوله بنشوة انفعالاته الهائجة بمرارة الذكريات من زيارته لمصر»! وفي الوقت نفسه حضر مِن الجزائر الإخواني المعروف الفضيل الورتلاني (ت 1959)، والداعية الشيخ محمد البشير الإبراهيم (ت 1965) رئيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر. وتقرر من قِبل مراقب «الإخوان» العراقيين أن يُقام حفل خطابي بالمناسبة في جامع الإمام أبي حنيفة، حيث محلة الأعظمية ببغداد، وحصلت رخصة به من رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي (ت 1997)، وكان الضيف الأول هو صفوي. جاء في كلمته، ما لم يصبر عليه حاكم، فقد «شَرع يهدد زعماء العرب بالقتل والتدمير، يقسم بالله من على المنبر أن يقتل الشاه ويقتل وزراءه». ثم وجّه كلامه إلى رئيس وزراء العراق، ولم يكن من حاضري الحفل، قائلا: «ليعلم رئيس الوزراء فاضل الجمالي وساداته الذين وظفوه بأني سوف أُحطم رؤوس أعداء الله من حكام المسلمين، الذين لا يحكمون بما أنزل الله» (الفكر الصريح في الكلام الصريح). نُشرت فقرات خطاب صفوي، في اليوم الثاني في الصحف البغدادية، وكان قد حرره صهر الصواف، وما كتبه العجلي في جريدة «السجل» إحدى صحف «الإخوان المسلمين». وبعدها غادر صفوي إلى إيران ليفي بقسمه على قتل الشاه ووزرائه، من دون أن يُحقق معه أو حتى يُعاتب مِن قِبل رئيس وزراء العراق الذي شتمه وهدده داخل بغداد، ولم يُلاحق «الإخوان المسلمين» على ذلك الاحتفال الثوري. تلك أيام مضت، ويستخلص منها أن الإسلام السياسي، بصفوي أو قطب، ومنذ ذلك التاريخ، عابر للحدود الوطنية، واستمر أسلوب العنف متوارثاً، في الفترات اللاحقة، داخل المعارضات الإسلامية والحكومات أيضاً، والشاهد إيران والسودان. والسُّؤال: هل كان صفوي سيعمل للإيرانيين أكثر مما عملته الثورة الإسلامية، وها هم ملايين الإيرانيين يتحينون الفرصة لمجابهتها، وهي تحاصرهم بجيش ثوري وبأنصار «حزب الله» (غير اللبناني)؟! للمقال صِلة.