شهد منتدى «الاتحاد» الأخير يومي 27 و28 أكتوبر الماضي نقاشاً ثرياً حول مستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي. وأثيرت خلال ذلك النقاش أسئلة بقي بعضها مفتوحاً لمزيد من الحوار. ويستمد أي منتدى بحثي أو إعلامي قيمته من أهمية القضايا التي يطرحها، كماً من الأسئلة التي يثيرها ويقدم إسهامات جديدة فيها تساهم في نقل الحوار حولها إلى مستوى أعلى بحثاً عن إجابات عليها. وبمقدار ما تطرح الأسئلة بطريقة تساعد على سبر أغوار القضايا المتعلقة بها، تزداد قدرتنا على التقدم في معالجة هذه القضايا. فالأسئلة لا تقل أهمية عن الإجابات، بل لم تتقدم المعرفة الإنسانية منذ القدم إلا عبر القدرة على طرح السؤال في سياق يشحذ التفكير ويُعمل الفكر. ومن أهم الأسئلة التي أُثيرت في مناقشات منتدى «الاتحاد» الأخير السؤال عن العلاقة بين الدولة الوطنية والديمقراطية. فهل ينبغي أن تكون هذه الدولة ديمقراطية في كل الأحوال؟ وهل الديمقراطية بالتالي شرط لازم لتأسيس هذه الدولة أم أنها ضرورية لإكمال عملية بنائها؟ وإلى أي مدى يمكن التقدم نحو دولة وطنية مكتملة الأركان بدون ديمقراطية؟ وفي ثنايا الحوار حول العلاقة بين الدولة الوطنية والديمقراطية، يُطرح التساؤل عما إذا كانت هناك قاعدة عامة مجردة تحكم هذه العلاقة، أم أنها ترتبط بسياق معين وبالتالي تختلف من حالة إلى أخرى ومن مرحلة إلى غيرها؟ والحال أن العالم المعاصر صار معقّداً ومركّباً إلى الحد الذي لا يسمح بتفسيرات أحادية لأي من ظواهره، بما في ذلك الدولة الوطنية التي حلّت محل الإمبراطوريات والممالك المتعددة القوميات، وصارت هي الوحدة الأساسية في المجتمع العالمي والعلاقات الدولية. لذلك لا يجوز تبسيط قضية الدولة الوطنية والديمقراطية واختزالها في علاقة حتمية تتجاوز ظروف الواقع المتغير مكاناً وزماناً. فالدولة الأوروبية التي اقترن تأسيسها بمفهوم «الدولة -الأمة» أو «دولة الوطن» (Nation State) تختلف في خلفيتها التاريخية وظروف نشأتها وطبيعة تكوينها عن الدولة الآسيوية أو الدولة الأفريقية. كما أن الدولة التي نشأت في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر تختلف عن تلك التي تأخر ميلادها أو تبلورها الوطني إلى القرن العشرين. لذلك لا يمكن أن تكون الديمقراطية شرطاً لنشأة الدولة الوطنية أو تأسيسها. ففي كثير من الحالات، كان وجود الدولة الوطنية سابقاً على التطور الديمقراطي فيها، بل شرطاً لهذا التطور. فالدول التي توافرت لها مقومات الديمقراطية عند تأسيسها، أو بُعيده بقليل، هي الأقل في العالم. كما أنها حالات نادرة خارج أوروبا. أما أغلبية الدول الوطنية في عالم اليوم فقد تحول بعضها إلى الديمقراطية بعد تأسيسها، بينما يبحث بعض ثان منها حتى الآن عن طريقه إلى هذه الديمقراطية. لذلك تتطلب الإجابة على السؤال عن العلاقة بين الدولة الوطنية والديمقراطية مناقشةَ مسألتين أساسيتين: الأولى تتعلق بصعوبة الوصول إلى يقين بشأن هذه العلاقة، إذا أغفلنا العوامل المؤثرة عليها والمتغيرات المرتبطة بها، خاصة تلك التي يمكن اعتبارها عوامل وسيطة. وتبرز في مقدمة هذه العوامل مسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي ينبغي أن تحظى بأهمية خاصة جداً في أي بحث حول العلاقة بين الدولة الوطنية والديمقراطية أو حوار بشأنها. فقد ثبت عبر تحليل حالات تطور الدولة الوطنية بعد تأسيسها باتجاه الديمقراطية أن هذا التطور يبدو صعباً بدون تحقيق مستوى معين من التنمية الاقتصادية يؤدي إلى توسع نطاق الطبقة الوسطى وبلوغها الحجم الذي يساعد على ازدياد الطلب المجتمعي على الديمقراطية. فالتنمية الاقتصادية تقترن بالضرورة بانتشار التعليم وتحسنه وازدياد أعداد المتعلمين الذين يمثل معظمهم القاعدة الأساسية للطبقة الوسطى. فكلما توسعت الطبقة الوسطى في المجتمع، ازدادت إمكانات التحول الديمقراطي وفرص نجاحه. لذلك لم تستقر الديمقراطية في الدولة الوطنية إلا في وجود طبقة وسطى عريضة. ورغم أن هذه الطبقة لم تكن كبيرة الحجم في الدول الأوروبية التي نشأت ديمقراطيةً، إلا أنها كانت قوية بفعل قيادتها عملية الانتقال من الإقطاع إلى النظام الرأسمالي، خاصة أن نسبة لا يُستهان بها من الإقطاعيين أصحاب النفوذ القوي كانت لهم مصلحة في ذلك الانتقال الذي شاركوا فيه عبر استثمار عائدات أراضيهم الزراعية في التجارة ثم الصناعة. لذلك لم تكن الدول الأوروبية بحاجة إلى وقت تحقق فيه مقومات الممارسة الديمقراطية التي توافرت لمعظمها منذ تأسيسها بخلاف كثير من الدول الأخرى. أما المسألة الثانية التي ينبغي إدراك أهميتها عند البحث في قضية العلاقة بين الدولة الوطنية والديمقراطية، فهي أن هذه الديمقراطية ليست مجرد انتخابات وأحزاب وبرلمانات منتخبة. فكثيرة هي الأخطاء التي ترتبت على حصر الديمقراطية في عمليات إجرائية، ثم اختزال هذه الأخيرة في صندوق الانتخاب. وإذا كان القول الشائع «أيتها الحرية... كم من الجرائم تُرتكب باسمك!» قد اقترن بالتوسع الشديد في مفهوم الحرية على نحو يتجاوز الخط الذي يفصلها عن الفوضى، فمن شأن تضييق مفهوم الديمقراطية وحصرها في الانتخابات أن يدفع إلى التحذير من مصائب ارتكبت باسمها عندما تم اختزالها في صندوق ليس إلا، كما حدث في مصر بعد انتفاضة 25 يناير واستدعى انتفاضة أخرى في 30 يونيو لإنهاء هذا الاختزال. فالديمقراطية هي وسيلة لتحقيق مبدأ السيادة الشعبية عبر الاختيار الحر لتكون السلطة القائمة شرعية. ومناط هذه الشرعية هو ما يُطلق عليه القبول أو الرضا العام. وإذا كان المجتمع راضياً في مرحلة من مراحل تطوره عن أداء السلطة الحاكمة، تتحقق الشرعية اللازمة حتى إذا لم تكن هذه السلطة منتخبة. وتعتمد الشرعية في هذه الحالة على الإنجاز. وعندئذ تتواصل عملية بناء الدولة الوطنية وتوطيد أركانها إلى أن تظهر الحاجة إلى الانتخابات أو الطلب عليها، طالما أنها ليست شرطاً ضرورياً لتحقيق التكامل بين المكونات المختلفة لهذه الدولة سواء الدينية أو المذهبية أو المعرفية أو اللغوية أو غيرها. وفي هذه الحالة يمكن الحديث، استثناءً، عن توافر مضمون الديمقراطية بدون إجراءاتها أو في غياب بعض هذه الإجراءات. لكن هذا الاستثناء لا يلغي القاعدة العامة، وهي أن الديمقراطية تظل لازمة لاكتمال نمو الدولة الوطنية وانصهار الانتماءات السابقة عليها في إطارها وتحقيق النجاح النهائي لعمية التكامل التي تجعل الانتماء إلى الوطن جامعاً لتلك الانتماءات ومتقدماً عليها.