ما كانت واقعة «الإخوان» مع الأزهر قبل بضعة أيامٍ هي أولى وقائعهم معه، قبل الثورة المصرية وبعدها. فمنذ ثلاثينات القرن العشرين يتصارع «الإخوان» مع الأزهر حول المرجعية في الدين والمجتمع الإسلامي العام. بل يمكن القول إنّ خلافهم مع الأزهر سبق خلافَهم مع الدولة المصرية في زمني الملكية والجمهورية. فقد نظر البنّا، مؤسس «الإخوان»، إلى الأزهر باعتباره مؤسسةً تقليديةً عاجزةً عن أداء المهمات التي أوكلها المصريون والمسلمون بعامة إليها. وذلك لأن جمعية «الإخوان» والجمعيات المشابهة والتي قامت في مصر منذ مطالع القرن العشرين، كانت تعتبر نفسَها وارثةً للشرعية أو قائمةً عليها، وبخاصةٍ بعد سقوط الخلافة العثمانية وإلغائها على يد مصطفى كمال. وقد تطور هذا النوع من «الوعي» إلى الحدود القصوى بعد الحرب العالمية الثانية، لأن «الإخوان» صاروا يعتبرون أنفسهم بديلاً عن الدولة الوطنية المصرية. أما الأزهريون فظلُّوا يعتبرون أنفسهم قبل إلغاء الخلافة وبعدها قائمين على التعليم الإسلامي وعلى الفتوى وعلى الإرشاد العام، ولا يرون أن بينهم وبين السلطات القائمة منافسةً من أي نوع. بل إن كثيرين منهم اعترضوا على مطامح الملك فؤاد واستخداماته للأزهر لتسنّم منصب الخليفة الذي تخلَّى عنه الأتراك. والشيخ علي عبد الرازق، شقيق الشيخ مصطفى عبد الرازق (الذي صار عام 1945 شيخاً للأزهر) هو مؤلّف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذي قال فيه إن الإسلامَ دين لا دولة، والذي واجهه البنّا فيما بعد بمقولته: «الإسلام دين ودنيا، مصحف وسيف»! وقد اعتبر الأزهريون (وهم حلفاء الدولة المصرية دائماً) أنه لا يمكن تحت أي ظرف تسليم الدعوة والتعليم والفتوى إلى الحزبيين، وتجادلوا عَلَناً مع «الإخوان» ومع الجمعية الشرعية وجمعية إحياء الكتاب والسنة أيام الملكية، في رؤى تلك الجمعيات للتعليم الديني وللعلائق بالدولة المصرية كما بشأن العلائق والصلاح للفتوى والإرشاد. ورغم الإزعاجات الكثيرة التي مارستها السلطات الملكية والجمهورية تجاه الأزهر؛ فإن قلةً قليلة فقط من الأزهريين انتسبت لـ«الإخوان» مثل الباقوري والغزالي وسيد سابق والقرضاوي. وقد شكا هؤلاء الشيوخ دائماً من أنّ «التنظيم» هو صاحب السلطة المطلقة في الجماعة، وأنهم معزولون عن ذلك، رغم وجود بعضهم في مكتب الإرشاد، وهو السلطة العليا في الجماعة ظاهراً. وعندما ذهبتُ للدراسة بالأزهر في أوساط الستينيات، كان شيوخنا يقولون لنا إنهم غير مسرورين بضرب النظام الناصري لـ«الإخوان» للمرة الثانية عام 1965، لكنْ لا حقَّ لـ«الإخوان» بإنشاء تنظيم سري ضد الدولة، كما أن مصارعة الدولة المصرية باسم النظام الإسلامي، وتطبيق الشريعة، مُضِرٌ بالدين أكثر من إضراره بالدولة والنظام العام! وهكذا فإن النزاع بين «الإخوان» والأزهر كان نزاعاً على أمرين اثنين أساسيين: لمن المرجعية في الدين؟ وأنّ نظام الحكم في الإسلام مدني لا ديني. وإذا كان هذا الفريق أو ذاك يريد معارضة النظام القائم بالوسائل السلمية فهذا حقُّه، لكنْ ليس باسم الدين، لأنّ المجتمع المصري مجتمع مسلم في غالبيته العظمى، ولا تمثله جماعة أو حزب، والاختلاف الذي يمكن أن يحصل هو سياسي وعلى إدارة الشأن العام، وليس لأن الدين يملك مذهباً سياسياً معيناً تمثّله هذه الجماعة أو تلك! وفي عام 2008 -وكان شيخ الأزهر الحالي رئيساً لجامعة الأزهر- نظّم شباب «الإخوان» تظاهرةً شبه عسكرية بداخل الأزهر، بدون سبب ظاهر غير إظهار السطوة، فانزعج شيخ الأزهر آنذاك ورئيس الجامعة، انزعاجاً شديداً وقالا بصوت واحد إن هذا ليس عمل طلاب، بل هو عملُ أحزاب وجماعات مسلَّحة، ولا يجوز السكوت عليه. وبعد قيام الثورة المصرية، التي أعلن شيخ الأزهر -بعد تردد- تأييده لها، اندلع الصراع عَلَناً بين الأزهر من جهة، و«الإخوان» والسلفيون من جهة ثانية. وكان الهمُّ لدى هؤلاء المندفعين إلى الساحة باسم الإسلام الاستيلاء على إدارة الأزهر وإقصاء شيخه للإفادة من مرجعيته الدينية العالية. في حين انصرف شيخ الأزهر لاحتضان المسيحيين الذين عانوا كثيراً من خلال «بيت العائلة المصرية»، كما انصرف لإصدار البيانات التي تحول دون تغوُّل «الإخوان» والسلفيين على السلطة في الدولة والمجتمع. قال في البيان الأول عن «مستقبل نظام الحكم» إنّ الإسلام يقول بالدولة الديمقراطية العصرية التعددية القائمة على المواطنة. وقال في البيان الثاني الذي جمع حوله أيضاً علماء ومدنيين مسلمين وغير مسلمين إنّ حركات التغيير العربية السلمية هي حركات مشروعة، والحاكم الذي يستخدم العنف ضدها يفقد شرعيته فوراً. وقال في البيان الثالث بالحريات الأربع: الدينية والسياسية وحريات البحث العلمي والإبداع الفني. وقال في البيان الرابع بمساواة المرأة وحريتها. وفي لجنة كتابه الدستور التي تمثَّل فيها الأزهر بعدد من علمائه سخر السلفيون و«الإخوان» من دفاع الأزهر عن حقوق المسيحيين، وعدم اهتمامه بالكثير من الموادّ التي تذكر الشريعة وتطبيقاتها! وبينما هدأ السلفيون قليلا تجاه الأزهر وشيخه بعد وصول «الإخوان» للسلطة؛ فإن الأخيرين تابعوا صراعهم معه، وبدا ذلك في إهمالهم استقبال شيخه بطريقةٍ لائقةٍ في الاحتفالات التي أعقبت انتخاب مرسي، بحيث أعرض عن الحضور لأي احتفال رسمي. ثم نظّموا ثلاث عمليات زعموا فيها أن إدارة التغذية في الأزهر سمَّمت مئات الطلاب الداخليين (!) ومن العجيب أن المتسممين الذين زارهم مرسي في المستشفيات كانوا جميعاً من طلاب «الإخوان»، وما تسمَّم أحد غيرهم. وبعد كل واقعة كان هؤلاء يتجمعون حول مشيخة الأزهر ويطالبون بعزل رئيس الجامعة، ثم بدؤوا يطالبون باستقالة شيخ الأزهر! وقبل أسبوعين قال لي أحد الزملاء بكلية أصول الدين إنّ الخطة المقبلة لـ«الإخوان» تتضمن تعطيل التعليم الجامعي بعد بدء الموسم الدراسي، وسيصبح الأمر صعباً على الأزهر، لأنهم سيحاولون التجمهر والتكسير بكليات الأزهر، وربما عادوا للتظاهر أمام مشيخة الأزهر ومحاصرتها بحجة أنّ شيخ الأزهر أيَّد «الانقلاب»! وقلت له: هل عددهم بالأزهر كبير؟ فقال: إنّ في الأزهر بالقاهرة والأقاليم نصف مليون طالب وطالبة، وبينهم في الأكثر ألف وخمسمائة من الحزبيين «الإخوان»، فليست المشكلة في العدد؛ بل المشكلة في العداء المتصاعد ضده بحيث يشتبك بعض غير الحزبيين معهم فتكون دماءٌ بين الطلاب، وليس من المستحسن دعوة الشرطة لدخول الجامعة لكي لا تثور الأمور أكثر! لقد كان الأزهر دائماً المؤسسة التعليمية والمرجعية الأكبر في العالم الإسلامي. وقد أراد «الإخوان» دائماً انتزاع هذه المرجعية عن طريق النخبة العالمِة التي يبنونها هم. وقد فشلوا في ذلك، كما فشلوا بعد الثورة في الاستيلاء على إدارة المؤسسة وزرع رجالاتهم فيها. ولذلك فهم يريدون الآن «انتهاك حرمة» الأزهر بالإغارة عليه لإسقاط احترامه بين الناس. ولن ينجحوا في شيء من ذلك، لكنهم سيثبتون للمرة الواحدة بعد الألف أنّ هذا الإسلام السياسيَّ شرٌّ على الدين، بقدر ما هو شرٌّ على الدولة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.