الجدل الأميركي بشأن إصلاح الرعاية الصحية الذي جاء في ركابه إغلاق الحكومة الاتحادية خلال الآونة الأخيرة لابد أنه يثير الحيرة لدى شعوب دول أخرى. ويتزايد الاستياء لأن موقع برنامج "أوباماكير" على الإنترنت شهد ميلاداً كارثياً، حيث لم يستطع إلا أقل من واحد في المئة من الناس الذين زاروا الموقع أن يدرجوا أسماءهم في البرامج الجديدة، وردت الحكومة بتعزيز فني. وتمخض برنامج "أوباماكير" عن بعض العواقب المحلية. فقد فصلت الجامعة التي أعمل بها 50 موظفاً لتفادي الكلفة المرتبطة بالقانون الجديد. والذين فقدوا أعمالهم من عمال الصيانة والحراسة الذين كان يتعين على الجامعة أن توفر لهم تأميناً صحياً وإلا تواجه غرامات يمكن أن تصل إلى ثلاثة آلاف دولار للعامل الواحد. وكما هو الحال في الغالب، فقد تحول التشريع الاتحادي الذي قصد به مساعدة المحتاجين ليضر ببعض الذين سعي إلى مساعدتهم، وهذا يثير المزيد من الاستياء. والتعقيد الاستثنائي للقانون يمثل جزءاً من أسباب هذه المشكلات. فحتى الذين يحاولون تطبيق القانون لا يفهمونه في الغالب إلا قليلاً. وتم التوقيع على المشروع ليصبح "قانون الرعاية الصحية الميسورة" في مارس عام 2010 ، ويُعتبر "أوباماكير"من أشمل تشريعات الرعاية الصحية الأميركية منذ سن قانوني ميديكير وميديكآيد اللذين قدما التمويل للعجائز والفقراء عام 1965. ونص "قانون الرعاية الصحية الميسورة" يزيد إجمالا على 10500 صفحة. فلماذا مشروع "أوباماكير" بمثل هذا التعقيد؟ يقول المؤيدون إنه بالإضافة إلى وضع نظام اتحادي جديد للرعاية الصحية، فلا مفر من أن تكون أي محاولة أميركية لتأمين غير المؤمن عليهم شديدة التعقيد. فعلى خلاف معظم الدول الصناعية، يعتمد نظام الرعاية الصحية الأميركي على قيام صاحب العمل بالتأمين بدلاً من النظام الذي تموله الحكومة. والتأمين تقوم به الولايات الخمسون. وبالتالي فلا مفر من أن يمثل "أوباماكير" عملاً جديداً في فسيفساء معقدة بالفعل. وللقانون في الواقع ثلاثة أغراض أساسية وهي: خفض عدد غير المؤمن عليهم، وجعل الرعاية الصحية أيسر منالًا للذين يحتاجونها، وتقليص كلفة الرعاية الصحية. ويصعب الطعن في مثل هذه الأهداف، خاصة في بلد يتقدم العالم الصناعي في نسبة المواطنين الذين لا يستطيعون الحصول على رعاية صحية، لكنه ينفق أكثر بكثير على الرعاية الصحية كنسبة لكل فرد من أي دولة أخرى لتصل النسبة إلى 18 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، بينما تبلغ النسبة في بعض الدول التي يمكن المقارنة بينها وبين الولايات المتحدة أقل من 12 في المئة. لكن الخلاف والعداوة الشديدة التي تحيط بقانون "أوباماكير" ليست شيئاً جديداً في الولايات المتحدة. ففي النظام الأميركي، يضع الفرع التشريعي القوانين ويمولها بينما يتحمل الفرع التنفيذي مسؤولية تنفيذها. ومؤسسو نظام الحكم الأميركي، وهم رجال مثل "الكسندر هاملتون" و"جيمس ماديسون"، كانوا يتطلعون إلى نظام للمراقبة والتوازن ينافس فيه كل فرع الفرعين الآخرين من فروع الحكومة الثلاثة. فبعض الأميركيين في أنحاء البلاد يلتفتون حولهم ويرون الكثير من الأشخاص غير قادرين على الحصول على رعاية صحية ملائمة وغير قادرين على دفع كلفتها. وبسبب تأثرهم بمعاناة جيرانهم، يفكر هؤلاء في أنه ينبغي سن قانون يوفر لكل شخص إمكانية الحصول على رعاية صحية. ويرى آخرون عدم كفاءة هائل في الرعاية الصحية ويعتقدون أنه يتعين اتخاذ إجراءات لكبح الزيادات الكبيرة في كلفة الرعاية الصحية التي تعاني منها الولايات المتحدة تقليدياً كل عام. ومن المرجح أن يدعم مثل هؤلاء الأشخاص برنامج "أوباماكير". لكن أميركيين آخرين ينظرون حولهم ويرون حكومة اتحادية متضخمة تخنق الاقتصاد الأميركي وتعتدي على الحريات السياسية والاقتصادية. ويعتقد هؤلاء أن واشنطن أصبحت مفرطة النفوذ بالفعل وأن البرامج الاتحادية مثل "أوباماكير" لن تزيد الحكومة المتطفلة بالفعل إلا تمادياً في تطفلها. وينتاب هؤلاء أيضاً قلق من أن الولايات المتحدة ستصبح "دولة حاضنة" يلجأ فيها السكان إلى الحكومة لتحل مشكلاتهم. فإذا أردت حكومة اتحادية موحدة رشيقة الحركة، فالدستور الأميركي لا يساعدك هنا. وعلى الجانب الآخر، فالمناخ السياسي الحالي أقل عداء، إذا كنت تعتقد أن الخير الاجتماعي لا يمكن أو يجب ألا تقدمه الحكومة الاتحادية بحكم أن أهم وظيفة في الدستور الأميركي هو منع الإسراف في توسع الحكومة، وهذا أبعد ما يكون عن تعظيم قدرة الحكومة على تقدم إعانات. والذين يتوقعون أن تبذل الحكومة المزيد من الجهود لمساعدة المحتاجين يرون في المناخ السياسي الحالي في واشنطن خللاً وظيفياً، ويلقون باللوم على الذين يعترضون الإرادة المتعاطفة للناس لبذل المزيد لمساعدة المحتاجين. والذين يعتقدون أن الحكومة تسرف في البذل بالفعل، بل تحتاج إلى أن تقبض يدها، ينظرون إلى نفس المأزق بارتياح معتقدين أنه يلطخ بشكل أكبر سمعة حكومة متعجرفة. بإختصار، الجدل الأميركي المحير حول الرعاية الصحية، والذي جاء في غمرته إغلاق الحكومة ليس متعذر على الفهم تماما كما يبدو للوهلة الأولى. فالأميركيون ليسوا متفقين على توسع وتحسين الحكومة بما في ذلك التفويض بتقديم رعاية صحية اتحادية، ويريد الكثير من الأميركيين بالفعل تقليصاً للحكومة، ويرغبون في استخدام أي وسائل متاحة لديهم لإحباط ما يرونه غير دستوري، بل وتوسع غير أميركي لسطوة الحكومة. وما الرعاية الصحية إلا أحدث قضية في جدل قائم منذ قرون. ريتشارد جوندرمان أستاذ الأشعة وطب الأطفال والتعليم الطبي بجامعة انديانا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"