تفصل الروحانية الفارغة الدين عن الدنيا. وتجعل الدين عالماً مستقلاً بذاته، عقائد وأشياء وحقائق ممنفصلة عن الناس، حياتهم وأرزاقهم وسعادتهم على الأرض منذ «إحياء علوم الدين» حتى «إحياء علوم الدنيا». من المهم التوجه نحو المشرق أو المغرب في الصلاة أي العقائد النظرية، وكذلك من المهم أيضاً من يؤتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب. ومن المهم أيضاً ما ينتج عن العبادة من آثار عملية في حياة الناس، الخبز والحرية، البقاء والأمن. فعمل البر والخير مهم مهم أيضاً مع الإيمان والتعبد والتهجد والابتهال وقراءة الأدعية بل الدقة في المعاملة. فالدين المعاملة، وعدم الغش في الموازين (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الذِينَ إِذا اكتالوا على النَّاسِ يَسْتَوْفونَ. وَإِذا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ). وتنهار المجتمعات إذا ما تعطلت مصالح الناس وجفت الآبار. ومن التكذيب بالدين إنكار وجود الله أو الأنبياء أو اليوم الآخر أو عدم الإتيان بالشعائر والطقوس، ومنه كذلك الذي ينهر اليتيم ولا يطعم المسكين (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذبُ بِالدِّينِ. فذلِكَ الذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ). ومن العبادة أيضاً إلى جانب الاعتكاف في المساجد العمل والكد والسعي (يَاأيُّهَا الإِنْسَانُ إِنكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فمُلاقِيهِ). والقصة مشهورة عمن انقطع عن الحياة ومكث في المسجد ليل نهار، وسؤال عمر رضي الله عنه عمن يطعمه فقيل له «أخوه» فقال: «أخوه أعبد منه». والدين واقع (وَإِنَّ الدِّينَ لوَاقِعٌ). على عكس الروحانية الفارغة في فهم بعض الناس غير السليم للندين، وهي روحانية لا واقع لها. ويرفض التدين الشعبي هذه الروحانية الفارغة الخالية من أي مضمون اجتماعي في عديد من الأمثال العامية مثل «اللي يلزم البيت يحرم على الجامع». فالحفاظ على الحياة أولى. وكذلك قولهم «الزيت إن عازه البيت يحرم على الجامع»، و«حصيرة البيت تحرم على الجامع». البيت أولًا ثم الحسنة ثانياً، «الحسنة ما تجوزش إلا بعد كفو البيت». وإشباع الجائع قبل بناء المسجد «كل لقمة في بطن جائع أخير من بناية جامع». والاكتفاء الذاتي قبل كل شيء آخر «يا مزكي حالك يبكي» والفقير معذور يكفيه هم الدنيا «الفقير لا يتهادى ولا يداوي ولا تقوم له في الشرع شهادة». ولذلك كان الحفاظ على الحياة هو المقصد الأول من مقاصد الشريعة وضرورياتها الأولى مع العقل والدين، والعرض أي الكرامة الإنسانية، والمال أي الثروة الوطنية. والنكاح في مقاصده واجب شرعي. ولا رهبانية في الإسلام. وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب حياة من يصوم الدهر، ولا يتزوج النساء، ويقوم الليل، مؤثراً أسلوباً آخر يجمع بين الصوم والإفطار، والقيام والنوم، وزواج النساء. وكرد فعل على تلك الروحانية الفارغة نشأت كل الاتجاهات الإلحادية والمادية والماركسية والعلمانية والعقلانية والواقعية والوضعية والبراجماتية بل والوجودية أيضاً. وكلها تعطي الأولوية للأشكال المادية المختلفة. فالإلحاد كفر بالدين من أساسه. جعل الإنسان غريباً عن هذا العالم وغلفه بأستار من الزيف والنفاق. والمادية رد فعل طبيعي على الروحانية الفارغة. فالفعل يؤدي إلى رد الفعل. والنقيض يؤدي إلى النقيض، والطرف إلى الطرف. وتصبح مادية ساذجة حسية مباشرة دون أدنى دلالات إنسانية عليها. والماركسية رد فعل على هذه الروحانية الطائرة فـ«الدين أفيون الشعوب»، في نظرها، وهو للتسكين والتخدير والتعويض بحياة مستقبلية تعوض الفقير والمسكين والجائع ما يحتاج إليه في الدنيا. وهو زفرة المضطهدين ومقاومة للظلم والاحتكار. فتظهر الروحانية الممتلئة بالمضمون الاجتماعي. والعلمانية إيثار للمجتمع على الدين، وللعالم على الروحانية، ورفض لكافة أشكال الازدواجية في الشكل والسلوك وإيثار العالم والمجتمع المدني. والعقلانية تعتمد على العقل دون الروح إلا في الإلهام وجميع أشكال المعطيات السابقة خشية من عدم ضبطها وخروجها عن نطاق العقل. ونشأت الواقعية كرد فعل على الروحانية وعالم المفارقات. كما ظهرت الوضعية كرد فعل على المثاليات ومنها الروح. وحدث عند البراجماتية رد فعل عنيف على الموضوعات النظرية الخالصة التي لا ينشأ منها أثر عملي. أما الوجودية فهي رد فعل على المثاليات العقلية والروحية وعالم الماهيات والمقولات الثابتة. ولم يرد لفظ روحانية في القرآن الكريم بل ورد لفظ «روح» كالتالي: 1- الروح موضوع متعالٍ لا يمكن ضبطه. يوضع بين قوسين (وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا القَوْمُ الْكَافِرُونَ). 2 – الروح القدس الفعال في التاريخ. أيد عيسى وأمه مريم كأحد بيناته ومعجزاته مثل الحديث في المهد، وتعلم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وحمايته من بني إسرائيل. وليست الروح العاجزة المنعزلة عن الأرض والبشر. 3- تحمل الروح القدس الوحي وتنزله على قلوب الأنبياء حاملة للمعرفة. يثبت الإيمان في القلوب، وهدى وبشرى للمؤمنين. وليست انحرافات عن الدين ويأساً أو عجزاً مثل الروح في التدين الشعبي. وهو الروح الذي ينزل أمر الله على من يشاء من عباده الصالحين وليس الجاهلين. يجعل الوحي بأمر الله لينذرهم بيوم اللقاء. وهو الروح الأمين الذي لا يكذب. 4- التأييد والتثبيت والتقوية للإيمان وليس ضعفه وعجزه (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ). 5- الأمل ضد اليأس، فالأمل تعبير عن الإيمان. كما أن الكفر تعبير عن اليأس (وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا القَوْمُ الْكَافِرُونَ). 6- البعث والنشور، إذ تقوم الروح والملائكة في يوم البعث ومقداره خمسون ألف سنة (تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ). 7- والجزاء على الإيمان والقرب من الله مع الريحان وجنة النعيم (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ). 8- روح الإنسان من روح الله في الخلق. سجدت له الملائكة (ثمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِه). وفي الثقافة الشعبية الروحانية مهبطها الشرق، والمادية منشؤها الغرب. وهو تقابل غير دقيق. وهو ما ظهر في بعض المؤلفات مثل «الغرب العالم والشرق الفنان» لزكي نجيب محمود، و»عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و«ظلام من الغرب» لمحمد الغزالي. ففي كل حضارة أو دائرة حضارية كلتا النزعتين موجودتان. إنما الأصح هي الدراسات الاجتماعية للصلة بين الروحانية والتدين الشعبي. فالروحانية متمثلة في الأخلاق البروتستانتية هي أساس الرأسمالية. وهو ما فعله ماكس فيبر في «روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية». فلا توجد روحانية فارغة دون مضمون اجتماعي، ولا ساكنة بلا أثر في الواقع. الروحانية ادعاء عند البعض، واستغلال عند البعض الآخر. لا تعلن عن نفسها بأنها كذلك، بل يراها الناس وهي تحرك المادة مثل الطاقة والكهرباء والمغناطيسية والتفاعلات الكيميائية والتراسل عن بعد. الروحانية الاجتماعية هي الطريق الصعب بين الروحانية الفارغة والمادية الساذجة.